المسألةُ المحورية في البحث عن الزمن المفقود ليست هي : « لماذا يصير المرء كاتبا ؟ « كما ليست ، حين يتساءل سارد الرواية : « لماذا ألقي التحيّة على الماركيزة Cambremer ؟ « . أيّة إجابة لن تكون شافية . لقد تعلّمتُ من التّحليل النّفسي أنّ مجرّد وضع تساؤلات بمساعدة هذا الظرف الإستفهامي ، لا يتمّ ُ مطلقا تحصيلُ جواب . أنا لا أسأل نفسي لماذا كتبتُ ، تحت عنوان» ماما « ، كتابا مخصّصا لعلاقات مارسيل بروست مع أمّه ، جانْ ، ليس أقلّ من تساؤلي في ذاك الكتاب لماذا أصبح بروست كاتبا و لم يصر بالأولى ديبلوماسيا كما كانت تحلمُ أمّه أو طبيبا كما يرغبُ أبوه ويودّ أخوه : و ها ، سيّدتي ، لماذا لم يكن ابنُك معقود اللّسان . السّؤال الوحيد هو : كيف أصبح مارسيل الصّغير بروست الكبير ؟ عبر أيّة تقمّصات نفسية ، عبر أيّة وجوه عائلية ، عبر أيّ نماذج من الأدباء ؟ موضوع البحث ينحصرُ في أربع كلمات كما أوضح جيرار جينيت : كيف يصبح السّارد كاتبا ؟ (1) . غايتي أن أروي كيف أصبح بروست السّاردَ ، أو بالأحرى كيف مارسيل غدا مارسيل ، بما أنّ هذا و ذاك يحملان نفس الإسم الشخصي . لا يتعلّق الأمر بشرح عمل بروست عبر حياته ولا حتى عبر حياته اللاواعية حسب نقد بيونفساني ممقوت . لقد بحثتُ ببساطة أن أجلي ، في خطاب السّارد كما في خطاب مؤلّف البحث عن الزمن المفقود ، نقط الإلتقاء و نقط التعارض . ورغبةً في تجنّب كلّ تحليل نفسي مُطبّق على الأدب ، فإنّي جرّبتُ ، في المقابل ، أدباً مُطبّقاً على التّحليل النّفسي ، لأنّني أعترفُ أنّ الروايات دائما علّمتني الكثير عن تشكّلات اللاوعي و الكيفية التي تتصرّف اللغةُ بها و تتصرّف هي باللغة ، أكثر ممّا أفادتني المؤلّفات النّفسية . يتعلّقُ الأمر بالنسبة إليّ ، بإضاءة و من خلال كتابه، الحياة النفسية لبروست الذي أضحى كاتبا ليقول و ربّما ، ليحلّ صراعاته الدّاخليّة وبخاصّة صراعه مع الماما ، هذا الجانب من الرّغبة التي تغذي هذه الحكاية ، حكاية الحبّ و الموت و بلا ريب البُغض بين ابن و أمّه : أن يصيركاتبا كي يحكي للماما يظلّ معلّقا فوق الفراغ . الجانبُ الآخر ممّا عليه أن يقوله ، أبدا لا يستطيع قوله .أبدا . ليس هذا بأقلّ من قتل الحقيقة حين لا تُقال قطّ وحين يتمّ استنفادها بكتابتها . يتعلّق الأمر ببساطة ، كما في التّحليل النّفسي ، بعرض و بترك بعض الكلمات تنفتحُ ، و قد تقاطعت مع كلمات أخريات ، لتقول ما الكائن و ما الرّغبة ، أو ، مثلا ، التساؤل بصدد هذه الكلمات : الظل ، الفتيات ، الزهور(2) لماذا ضمّها بروست في عنوان ، رابطا بين أشياء ثلاثة لا يحبّها و تؤذيه : المساء ، الأنوثة ، الرّبيع . من بين هذه الكلمات أيضا ، كلمة الذئب ، كلمة حماقة ، كلمة ذيل ، كلمة عكس أو قلب ، كلمة رسالة و بخاصة كلمة ماما . كلمة حول هذه الكلمة ، ماما . ما عدا الغلط أو السّهو ، لا كتاب يحمل هذه الصّفة . أ يكون هذا الإسم الصّغير كلمة كبيرة ؟ لم يوظف مؤلّف « ضد سانت بيف « مطلقا و نادرا في البحث عن الزمن المفقود هذا التعيين : أمّي ، بينما يكاد يقول في كلّ مكان: أبي . لمّا يتكلّمُ عنها يستعمل نفس الإسم حين يتكلّمُ إليها : ماما . طريقة لكي يشير بأنّها ها هنا دائما ، في هذا الموضع من الحبّ و من الضّيق . هذه الكلمة ليست إسما ، إنّها صوت ، صرخة ، نداء . و ماذا حين يرنّ هذان المقطعان اللفظيان في الفراغ ؟ عندئذ ، لكي يتمّ استرجاع الماما ، للحيلولة دون أن يقتله غيابها ، لم يبق له سوى الكلمات . رسالة كالتي كتبها رامبو إلى فرلين يوم 5 يوليوز 1873 و التي ، بعد لائحة طويلة و مملّة من اللّوم و عدم التحمّل يُنهيها على هذا النّحو :» الكلمة الحقّة الوحيدة هي : ارجعْ « . كما تلك التي كتبها سارد الرواية و هو طفل منتظرا بيأس قبلة الماما . في الرواية النهائية للقبلة المفقودة و المستعادة ، في بداية Combray ، تملّكت الطفل فجأة فكرة أن يكتب إلى الماما هذه الكلمة التي يضمرها لها . لمّا لا تلامس الكلماتُ إلاّ الصّمت ، نحاول أن نبعث فيها الحياة ، أن نبصرها ، أن نمنحها جسدا من الحبر و من الورق . « الآن ، لم أنفصل عنها بتاتا ؛ الحواجز انهارت ، خيط عذب يضمّنا «(3) . الكتابة في جذرها البعيد ، هي هذا الشيء ، العمل على أن تعود ، التي أنا بدونها أضمحلُّ و أتلاشى ، هو الإعتقاد بأنْ ليس هناك إلاّ كلمة وحيدة ، إلاّ حقيقة وحيدة ، ارْجعي . هل يمكننا الكتابةُ دون الإيمان المحتدم و الضاري بسحر الكلمات ، بقدرتها على الإبتهال و التضرّع ، بدون اليقين « بأنّنا ما نُسمّيه نخلقهُ « . كما يقول السّارد(4) ؟ « لو أنّني ، على الأقل ، أستطيع أن أقذف زجاجتي في البحر ، أن أرمي بهذا الكتاب « كما كتب بروست سنة 1918 (5) . ما هي الروايات إلاّ أن تكون رسائل لا نعرف لها باعثا و لا متلقيا ؟ في المحصّلة ، كلمات رُمي بها في زجاجات ، قُذف بها في البحر ، لن يقرأها إلاّ أيّ أحد . كلمات تقول جميعها نفس الشيء ، الشيء الوحيد : لا تذْهبي ! الكلام لا يقولُ الحقيقة إلاّ حين لا يقولُ شيئا بتاتا ، أو يقولُ حقيقة صغيرة جدّ بسيطة :» يسوءني أن أوجد « . يكتب بروست بغرابة أنّنا لا نتوفّر على عضو مكرّس للتقبيل (6) . هذا خطأ ؛ أو غير صائب سوى إذا اعتبرنا أنّ الفم و الشفتين و اللّسان تصلح للكلام أيضا و الحاجة قائمة إلى عضو كي لا يتكلّم ، كي لا يلثم الكلمات . القبلة تعطيل لوجع أن يكون عليك أن تتكلّم لتُصيّر نفسك محبوبا . و الكتابةُ ؟ نكتبُ لأنْ لا أحد ينصتُ . نكتبُ كي نصمت ، كي نصير محبوبين دون كلام . نكتبُ حتى نقبّل الغائبين ، الذين تركونا ، الذين انفصلنا عنهم ، الذين ماتوا ، والذين هجرناهم و هذه القطعة من صميمنا التي افتقدناها معهم . هذا لا جرم فيه ، لكنّه لا يكفي . نكتبُ أيضا لكي نفقد ، نفترق ، نقتل الأحياء ، لا نموت مع الأموات . غداة موت أمّه ، اكتشف مارسيل بروست بين أوراقها الحميمية ، دفترا . في هذا الدفتر ، سجّلت جانْ حزنها إثر ممات السيّدة Weil عام 1890 . في الحال أدرك بروست، الذي كان حينئذ منفصلا عن أمّه ، أنّها لم تكتب إليه ، لم ترغب ، كما تعتقد ، في أن تفاقم غمّه بأن تقول له غمّها . ليس إلاّ فيما بعد ، في سنة 1905 و أمام وفاة جانْ ، مزج الفقد بالفقد و استعاد أحاسيسه الخاصّة به في خضم المأتم الأمومي ، أحاسيس كان ، إلى تلك اللحظة ، قد تجاهلها . سيتركُ لكلمات الألم و الهجر التي كتبتها أمُّه أن تتقدّم إليه إلى اليوم الذي ، و حتى يعلن حزنه ، سيصفُ في روايته موت جدّته من الأمّ . هكذا ، يكون البحثُ عن الزمن المفقود قد كُتب بشكل مضاعف عن موت الأمّهات . أثناء احتضارها ، كانت أمّ بروست تستعيدُ بعض الألعاب بصدد روايات جورج صاند ، عبارة عن ألغاز و أحجيات أدبية منطلقة من كورنيل لتنتهي إلى العدم . موتها لم يكن إلاّ تضمينات امرأة مثقفة تركتْ لولدها العناية بفكّ رموزها .» تصرّفْ كأنّك لا تعلم أنّني أموت « . ليكنْ موتي كلمة سارّة ، لينْتمِ لا إلى الحياة الموجعة ، بل إلى الأدب المُسلّي . بين هذه الأقوال الشبيهة باستطرادات من الدعابة و من العفّة ، أفلتتْ من السيدة بروست هذه العبارة : « ليطمئنْ صغيري ، الماما لن تتركه « . سيُستجاب لها . كُتبتْ « محادثة مع ماما» التي ينبىء فيها الإبن أمّه بأنّه يكتب بينما هي ، بهيّةً و مشرقةً ، تتطلّع في مرآتها (7)، ثلاث أو أربع سنوات بعد هذا الموت ، و حكاية ميلاد هذه النسخة الأولى من البحث عن الزمن المفقود هي طريقة لجعل الأمّ تحيا ثانية بين الأوراق . هذا هو ربّما توزيع الأدوار بين مارسيل و الماما . للإبن الذكاء ، للأمّ المعرفة . لها، القراءة ، النصّ من غير مؤلّف ، النّبرة الشفاهية ، العبارة اللّذيذة و المتساوقة ، الما قبل القبلة المتعذّر بلوغه . له ، الكتابة ، التمتمات المُستعادة بلا انقطاع ، نتف من الورق بدلا من القبل ، فستان الكتاب المُمزّق و المُعاد خياطته باستمرار ، المستقبل السّابق للرغبة . لا يهمّ إن كان هذا المشهد قد حدث أم لا ، هكذا أو بشكل آخر ، المهمّ هو الطريقة التي يتصوّر عبرها بروست الكاتب ميلاده الخاص ككاتب . على الوجهين : الطفل المرتجفُ على الدّرج ، الشاب المُستهام المُهتاج المتطلّع إلى أمّه الجالسة إلى منضدة زينتها و هو يخبرها بأنّه سيكتبُ كتابا . البحثُ عن الزمن المفقود ليس ضريحا كما كان الشأن مع العظماء في الماضي ، إنّه أكثر تواضعا بكثير ، فستان طويل من الكلمات ، إعداد غير ورع للمأتم . يتصرّف بروست ، و قد صار كاتبا ، كأنّه لا يعلم بأنّ أمّه قد ماتت . الكاتبُ و أمّهُ ، من قبل كما من بعد ، « يلعبان لعبة الأدب « ، كما تُلعبُ لعبة مطاردة اللّصوص ، لعبة التخبئة أو لعبة الدّمية . « يظهرُ أنّك ستصبحُ كاتبا ، و يظهرُ بأنّني لن أدرك ذلك « . إنها الأمُّ التي تلعب و تُمسرح ابنها ، لكن ، بما أنّ الإبن هو الذي يكتب هذا المشهد ، فهو الذي يُمسرح أمّه و يجعلها كاتبة . يدّعيان هنا معا منشأ سيناريو منحرف و ميلاد مُثُلية مارسيل ، و لكن أيضا صيرورة بروست روائيا . من السرّ المضاعف حول الجنسية و حول كتابة الرواية ، كانت جانْ بروست ، لا شكّ ، المتلقيّة و المتواطئة . ميثاقان لاواعيان انعقدا بين بروست و أمّه . الأوّلُ تعلّق بالمثلية وبالتّفاهم حول عدم الاعتراف باختلاف الجنسين ، الثاني تعلّق بالموت و عدم الاعتراف بلا تراجع الزّمن . إذا كان الأوّل في القلب من السلوك الجنسي ، فإنّ الثاني يبيحُ الخلق الفنّي . العبقريةُ و العيوبُ حتى نتكلّم مثل السّارد ، أو الإبداع الفنّي والجنسية المنحرفة كما تُقال الأشياء في التّحليل النّفسي ، يحافظان على صلات وثيقة . لكن ، كيف نفسّر لماذا بروست كتب روايته فائقة الحدّ و لم يصرْ روبير دومونتسكيو آخر ، نرسيس دون أثر ، مؤلف كتب ضعيفة القيمة ، مشايع لمثلية متكتّمة و بذيئة ، لكن قطعا ليس كاتبا ؟ لماذا لم يبق ابن أمّه و أصبح أب تحفته و رائعته ؟ من أين أتته الجسارة على كتابتها و القوّة على إنهائها ؟ ليس لديّ إجابات ، لكن أعتقدني أخال أنّ الأب أدريانُ بروست ليس دون أثر . الأمّهاتُ يمنحن الكلمات ، الآباءُ يمنحون الكتب . بروست مُثُليّ مُخفق أصبح كاتبا ، بينما مونتسكيو مُثليّ أصبح كاتبا غير موفّق . الفرضيةُ التي أصوغها برسم بورتريه متقاطع للكاتب و أمّه ، هي أنّه من دون هذه الأمّ ، لم يكن بروست دون شكّ ليصير مُثُليّا و لا كاتبا ، لكنّه إذا لم يكن استطاع بالجهد ، بالبغض و بالرّغبة في التحرّر من مُثليته و من أمّه في الكتابة لمكُث ذاك الذئب الصّغير الذي يبرز أوراقه الصّغيرة للماما الصّغيرة ، ليقول لها : « عُودي « . نكتبُ لننفصل عن جسد الأمّ و عن معرفة الأمّ بالجسد . حين اكتشف سوانْ أنّ أُوديتْ لم تكن على هواه ، و أنّ العناء أخذ منه و بدّد سنوات من حياته لأجل امرأة لم تكن تلذّ له ، كان الوقت متأخّرا حتى يشرع في الكتابة حقّا و يصنع كتابا عن حبّه الكبير . سيموتُ دون كتاب . انتظارٌ طويلٌ أمام باب مغلق لا يتسرّب منه إلاّ شعاع ضوء ما هو زائل . بالنسبة للسّارد ، سينحو منحى آخر. إذا كان هناك من هو على هواه ، يستحقّ العناء من أجله ، مُقارنا بكلّ الآخرين و بالأخصّ بكلّ الأخريات ، منْ في إمكانه أن يهديه حياته بأسرها كما لهواه الكبير ، فإنّها بالطبع الماما . لكنّه ، بالضّبط سينفصلُ عنها . البحثُ عن الزمن المفقود رسالة طويلة بعثها مارسيل إلى الماما ليقول لها أخيرا بأنّها لم تكن ما يستبغيه . الهوامش : 1 G.Genette , Figures , III , éd Seuil , 1972 , p.75 2 _ الإحالة هنا إلى الجزء الثاني من بحث بروست عن الزمن المفقود :A L'ombre des jeunes filles en fleurs 3 _ RTP ,I, p: 30 4 _ RTP , I , p: 89 5 _ Correspondance , XVII, p:147 6 _ RTP , II , p: 659 7 _ Contre Sainte _ Beuve , éd Gallimard 1954 , p:118 _149 ( « محادثة مع ماما « هي مقدّمة هذا الكتاب الذي صدر بعد رحيل بروست بسنوات ) * ميشيل شنايدر كاتب و محلل نفساني فرنسي( 1944 ) أصدر سنة 1999 عن منشورات غاليمار كتاب « Maman « يتناول فيه صلات مارسيل بروست بأمّه . ** هذا النص مأخوذ منMagazine Littéraire , Hors Série , n? 2 . 2000 , 30 _ 32 p: