لابد لكل سالك من دليل، ولا بد لكل متعلم من معلم، ولا بد لكل مسترشد من مرشد. حقيقة لا يجادل فيها أحد، بل هي من البدهيات والمشاهدات. وتأسيسا على هذه القاعدة استوجب السيرأوالسلوك الصوفي وجود مرشد أو دليل أو قدوة. وكلها ترجع إلى القدوة العظمى والرحمة الكبرى والهداية المثلى والإسوة الحسنة والمدرسة الروحية والتربوية والعلمية والإنسانية العليا التي لا تدانيها مدرسة ولا تقاربها جامعة علمية في مدى اتصالها بربها واستمدادها من خالقها وامتثالها للشريعة واستنارتها بأنوار الحقيقة: المدرسة المحمدية والقدوة النبوية التي هي نبراس المريد السلك ومنار الطريق للمتعلم الذي ينيرله المسالك: مولا نا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام. فقد كانت وما زالت هذه القدوة النورانية والرحمة العالمية والهداية المحمدية هي الدليل والمرشد والإسوة والمعلم للمنتسبين للتصوف السني في مشارق الأرض والمغارب .فشيوخ التربية من رسول الله يستمدون وهم المتحلون بالوراثة المحمدية . وكما قال الإمام البوصيري رحمه الله في بردته البرءة: وكلهم من رسول الله ملتمس غرفا من البحرأورشفا من الديم وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هوالإنسان الكامل، هو كمال الإنسان على الإطلاق، بما وهبه الله تعالى من الأخلاق السنية والشمائل القدسية والفضائل الكمالية والجمالية خلقا وخلقا، وبما منحه من المواهب الإنسانية التي فاق بها النبيئين، والرحمة الكونية التي سبحت في بحرها العوالم واقتات من أنوارها قلوب العارفين «وما أرسلناك إلارحمة للعالمين» [الأنبياء]، وبالخلق العظيم الذي حلاه به مولاه وزينه في الكونين، وبما أعطاه من سمي الصفات ومنحه من علي الكرامات، فهوالقدوة لكل صوفي سني والإسوة لكل سالك ومربي، حيث التزم الصوفية سنته واقتدوا بسيرته وتأسوا بأخلاقه الربانية عملا بقول الله تعالى: «لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخروذكر الله كثيرا» [الأحزاب]، وإن تميز الصوفية بشئ فبكثرة الذكرومن واجب الذاكر أن يقتدي بسيد الذاكرين محمد صلى الله عليه وسلم، حتى يحبه الله: «قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ، والله غفور رحيم» [آل عمران]. ولما كان الأمركذلك تطلب الحديث عن مظاهرالإحسان الاجتماعي والعلمي والإنساني في التصوف السني تقديم نفحة مسكية من الشمائل المحمدية إذ هي الباب وعليها المعول وإليها المآب. قال القاضي عياض رحمه الله:«وأما الشفقة والرأفة والرحمة بجميع الخلق فقد قال الله تعالى فيه: «عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم» [التوبة]، وقال تعالى:«وما أرسلناك إلارحمة للعالمين» [الأنبياء] ، قال بعضهم من فضله صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى أعطاه اسمين من أسمائه فقال: »بالمؤمنين رؤوف رحيم» [التوبة] [الشفا بتعريف حقوق المصطفى، الجزء الأول، دارالكتب العلمية بيروت لبنان]. ومن أعظم رحمته بالخلق عفوه عمن ظلمه، فقد صبرصلى الله عليه وسلم على أذى أعدائه سنين طويلة إلى أن أظفره الله عليهم وحكمه فيهم وهم لا يشكون في استئصال شأفتهم وإبادة خضرائهم فما زاد على أن عفا وصفح، وقال: «ما تقولون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم» فقال: أقول كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم الآية، اذهبوا فأنتم الطلقاء» ومن مظاهر إحسانه إلى الخلق جوده وكرمه وسخاؤه وسماحته، فما سئل عن شئ فقال: لا. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخيروأجود ما كان في شهررمضان وكان إذا لقيه جبريل عليه السلام أجود بالخيرمن الريح المرسلة . وعن أنس أن رجلا سأله فأعطاه غنما بين جبلين فرجع إلى قومه وقال: أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى فاقة، وأعطى غيرواحد مائة من الإبل، وعن أبي هريرة: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم يسأله فاستلف له رسول الله صلى الله عليه وسلم نصف وسق فجاء الرجل يتقاضاه فأعطاه وسقا وقال: نصفه قضاء ونصفه نائل» ومن إحسانه العظيم حسن عشرته وأدبه وبسطه خلقه صلى الله عليه وسلم مع أصناف الخلق. قال علي كرم الله وجهه في وصفه عليه السلام: كان أوسع الناس صدرا وأصدق الناس لهجة وألينهم عريكة وأكرمهم عشرة. قال تعالى: «فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لا نفضوا من حولك» [آل عمران] وقال تعالى : «ادفع بالتي هي أحسن» [فصلت]. وكان صلى الله عليه وسلم يجيب دعوة الحروالعبد والأمة والمسكين ويعود المرضى في أقصى المدينة ويقبل عذر المعتذر. وكان يبدأ من لقيه بالسلام ويبدأ أصحابه بالمصافحة. ومن جليل رحمته التي فتح الله بها قلوبا غلفا وأعينا عميا وآذانا صما أنه صلى الله عليه وسلم أعطى صفوان بن أمية عطاء واسعا حتى قال:«والله لقد أعطاني ما أعطاني وإنه لأبغض الخلق إلى فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الخلق إلى».وروي أن أعرابيا جاءه يطلب منه شيئا فأعطاه ثم قال: آحسنت إليك ؟ قال الأعرابي: لا ولا أجملت . فغضب المسلمون وقاموا إليه، فأشارإليهم أن كفوا ثم قام ودخل منزله وأرسل إليه صلى الله عليه وسلم وزاده شيئا ثم قال: آحسنت إليك؟قال: نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : إنك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي من ذلك شئ فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب ما في صدورهم عليك. قال: نعم . فلما كان الغد أوالعشي جاء فقال صلى الله عليه وسلم: إن هذا الأعرابي قال ما قال فزدناه فزعم أنه رضي أكذلك؟ قال: نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : مثلي ومثل هذا مثل رجل له ناقة شردت عليه فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفورا فناداهم صاحبها : خلوا بيني وبين ناقتي فإني أرفق بها منكم وأعلم فتوجه لها بين يديها فأخذ لها من قمام الأرض فردها حتى جاءت واستناخت وشد عليها رحلها واستوى عليها وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار» ولما كذبه قومه أتاه جبريل عليه السلام فقال له إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد أمرملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداه ملك الجبال وسلم عليه وقال مرني بما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين [أي الجبلين]. قال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا. إنها أعلى ذرى الإحسان، وأسمى صورالمعروف والبرتعبق بأريجها صفحات السيرة المحمدية العطرة، وقد كانت وستظل مشكاة تضيء طريق المحسنين . وما أروع وأصدق هذه الأبيات من همزية الإمام البوصيري : صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومجد وكرم وأنعم دائما أبدا.