يستمد التاريخ عناصره من كل لحظة تمر بحياة الإنسان، ومن كل حدث وجد له فضاء وجذورا، وينتقل من مجال الحاضر إلى زمن ولى، دون أن يكون له حظ الخوض في مجال المستقبل. لكن أهم المحطات والأحداث هي تلك التي لا تقف عند زمن عادي وحدث عابر. إنها تلك التي يشعر فيها التاريخ بأنه موجود ، يبحث عن رصيد مهم ، له هدف معين ، وخطة يعتمد عليها لبلوغ الغاية المرجوة والمحددة ، وأن وجودها أساسي لصياغة الحكمة والرؤيا والعبرة والتمجيد ، أو التحسر والخيبة والألم ، وحيث يصبح التاريخ مدينا لتلك المحطات والأحداث وذلك الظرف الذي فرض نفسه ، فاهتم به الباحثون والدارسون والمحللون وعشاق المعرفة أينما كانوا ، وغاصوا في ثنايا ذلك الزمن ومكانه ومعرفة علله وحيثياته . فالذاكرة الإنسانية كما هو معروف عنها ومعهود فيها لا تتوقف عجلتها، تمارس بدون كلل بعث المواقف والتحليلات والاستنتاجات، لتنتقل للتأويل ولتستخلص النتائج. وفضول الناس لا تنقطع حباله لمعرفة مكامن الصواب والخطأ ، والظفر والانهزام ، فذلك ديدن الإنسان أينما حل وارتحل ، ويظل البحث عن الغاية الشغل الشاغل عند أصحاب الشأن ، وأهل الحل والعقد ، وتبقى التناقضات والتحديات والشروخ امتحانا عسيرا لكل عابر في كل زمان ومكان . ألا يمكن القول بأن الإنسان يمثل في الحياة ظرفا زمنيا ومكانيا ؟ فهو يعيش في زمن ما ، بمكان ما ، يصنع تاريخا بصيغة المفرد والجمع ، لكنه يبحث عن الخلود ، بالكلمة والمعرفة ، أو بالتشييد والبناء ، أو بالصنعة والابتكار ، وما إلى غير ذلك مما تتيحه له إمكانياته وقدراته العقلية والجسمية على السواء ؟ وإلا قضى حياته كجملة لا محل لها من الإعراب . ألا يمكن القول بأن معضلة الإنسان وهو يتفاعل مع الزمن ليصنع تاريخا، تأتي من مستوى تخميناته وتصوراته، ونسبة اجتهاده وذكائه واندماجه في بيئته وفي مجالاتها الشاسعة التي يتداخل فيها اللغوي والديني والأخلاقي والسياسي ، وهلم جرا ، وأيضا من قدرته على العطاء والصبر والشجاعة والشعور بالانتماء والهوية . ألا يمكن القول بأن معضلة الشعوب في النكبات والهزائم، أو سر التقدم والانتصار، ما هو إلا نتيجة عقول تتصدر الزعامة وتتمسك بخيوط اللعبة، فإما قوة ونماء وتحضر، وإلا فالكل آيل للسقوط. هي معارك الإنسان التي تصوغ أحداثا ما ، في زمن ما ، ومكان ما ، ويدونها التاريخ للأجيال اللاحقة، لتلتفت إليها وتطلع عليها، بتسرع أو بتأن ، باستخفاف أو بتقدير، علما بأن التاريخ يمتثل لاتجاه خطوط بيانية تهتز إبرتها صعودا وهبوطا لدى كل تذبذب وتحرك، لترسم خريطة بمداد أهلها أينما كانوا ومتى حلوا وارتحلوا .