بدأت تداعيات ثورات المشرق تنعكس على المشهد السياسي للمغرب ، حيث كان من البديهي أن تلقي تلك الانعكاسات بظلالها علينا، لكون المغرب مختبر أوراش إصلاحية سياسية قديمة وحديثة، برهنت على محدوديتها أمام أزيد من خمسة عقود من الاستقلال، لكونها أحادية المنظور وفوقية المصدر، حوربت فيها السياسة والسياسيين ولم يتم طي الصفحة إلا في السنوات الأخيرة. وبتربع جلالة الملك على العرش شرع في عمليات إصلاح هامة، نظرا لكون المغرب في حالة احتضار مشرف على سكتة قلبية آتية لا ريب فيها، ولولا التوافق الوطني فيما بين القصر وأحزاب الكتلة لقرأ الجميع الفاتحة على روح البلاد والعباد، ولا ينكر إلا جاحد ما تم بناؤه من منجزات في عهد الحكومات الثلاثة اللاحقة تحت إشراف جلالة الملك، والإرادة الملكية الحازمة لجلالته في بناء الأوراش التنموية الهيكلية الاقتصادية والاجتماعية، والتي أعادت الأمل إلى المغاربة وغيرت نظرة الجميع تجاه المؤسسة الملكية ودورها الفاعل والمبادر في إنقاذ الأوضاع المزرية بالبلاد. إن الاعتراف بهذه الأوراش التنموية الكبرى التي بادر إليها جلالة الملك ونفذتها حكومة الأستاذ عباس الفاسي بنجاح غير مسبوق، لا يحول دون الجهر بأن لا تزال بلادنا تعرف تعثرا كبيرا على المستوى السياسي، للضبابية والعَتمة السائدة المعرقلة لانطلاق المغرب نحو الديموقراطية والنماء، علما بأن سبق لجلالة الملك أن تعهد بأجندة إصلاح دستوري وسياسي في في بداية عشريته دون جدوى، خاصة أن الفاعلين السياسيين في تربص وتسخينات في معسكراتها التنظيمية لخوض غمار الانتخابات المقبلة سنة 2012، ويتساءل معه البعض عن جدوى هذه الانتخابات في ظل مؤسسات دستورية مهترئة معتلة بهُزال دستوري، لا تحظى فيه بصلاحيات شبيهة ببرلمانات وحكومات الأنظمة الديموقراطية، مما لن يترتب عنه سوى المزيد من العزوف السياسي والمزيد من الاضطراب الاجتماعي والامتعاض من رموز الدولة والكراهية ضد صانعي القرار السياسي. لقد حان الوقت لالتقاط العديد من الرسائل والإشارات الموجهة لصانعي القرار السياسي من طرف الأحزاب الديموقراطية من جهة ، ومن طرف المركزيات النقابية والجمعيات الحقوقية من جهة ثانية، ومن طرف الشارع المغربي مؤخرا من جهة ثالثة بشكل سلمي وتخريبيي في آن واحد، ولا شك أن الحكومة بذلت ما في وسعها للاستجابة لما تقوى عليه حسب الإمكانات المتاحة لها، ويبقى على جلالة الملك بصفته الفاعل الحقيقي وصاحب السلط الواسعة أن يستجيب من جانبه لما لم تقو عليه الحكومة، ولما يدخل في اختصاصاته المنصوص عليها في الدستور وغير المنصوص عليها، من منطلق قناعة الجميع بأن حان الوقت لتوفير شروط الكرامة وباقي حقوق الجيل الثالث من حقوق الإنسان للمغاربة شيبا وشبابا، وفتح باب الحوار الوطني من أجل البناء الدستوري والسياسي الحقيقي للمغرب المعاصر. لقد باتت الكرة في مرمى مركز القرار ليقوم باستمزاج الرأي العام الوطني لإنضاج العديد من القرارات الإصلاحية قبل فوات الأوان، جاعلين من سنة 2011 قنطرة عبور حقيقية نحو مغرب 2012 ، نتطلع فيه جميعا إلى الاشتغال بآليات دستورية ديموقراطية يكون من شأنها نقل المغرب في مدى قصير إلى شاطئ الأمان والاستقرار. إن الظرفية المجتمعية الضاغطة في الشعوب العربية والإسلامية تسير كلها في اتجاه إصلاح الدساتير، بشكل يتم معه تقليص صلاحيات رؤساء الدول التي اتسعت أكثر من اللازم ضدا على شعوبها إلى حد الاستبداد والتسلط والطغيان، والمطالبة بتوسيع صلاحيات المؤسسات الشعبية المنتخبة، وهو ما تمت المطالبة به في بلادنا سابقا ومؤخرا من طرف الحركات الشبابية، حيث برزت المطالبة بمراجعة مبدأ فصل السلط بالعمل على التخفيف من نظام الملكية التنفيذية سيرا بنظامنا نحو ملكية برلمانية ذات خصوصية مغربية إن التخفيف من أسلوب الملكية التنفيذية يروم الاعتراف بممثلي الشعب على مستوى البرلمان والحكومة ، من خلال تمتيعهم بما يلزم من الصلاحيات الدستورية التي تسمح بالاستجابة لمطالب ومطامح الناخبيهم عوض إغراقهم بالوعود في ظل مؤسسات دستورية مشلولة ، وهو ما سيؤول في الأخير إلى إعفاء جلالة الملك من المساءلة القانونية عن القرارات التنفيذية الهامة المتخذة من طرفه ، والتعامل مع جلالته بصفته أميرا للمؤمنين وحكما مشرفا ومتتبعا لجميع المؤسسات، وإن هذا التخفيف الصلاحياتي هو الذي يسمح للناخبين بمحاسبة البرلمانات والحكومات السياسية المتعاقبة أمام الرأي العام الوطني حسابا عسيرا في مختلف الاستحقاقات الانتخابية. لقد أضحى مطلوبا من جلالة الملك استمزاج الفاعلين السياسيين الميدانيين عوض بعض مستشاريه من العهد القديم، من أجل مسارعة الزمن للقيام بإصلاحات سياسية لن تكلف خزينة الدولة عبئا ماليا، من قبيل القطع مع البروتوكولات المخزنية التقليدية العتيقة، والقطع مع نظام الريع والامتيازات المستفاد به من طرف الأعيان وجيوب المقاومة، وابتعاد القصر عن الاستثمار في المجال التجاري تفاديا للجمع بين السلطة والثروة، وتفادي إسناد قطاعات حكومية لمستشاري جلالته تنفيسا على الوزراء في تدبيرهم لقطاعاتهم بشكل مستقل، والقطع مع ضخ وزراء تكنوقراط أثناء تشكيل الحكومات، والسماح بمتابعة مختلف ملفات الفساد أمام القضاء دون تدخل، والقطع مع تحريك المتابعة القضائية بنوع من الانتقائية الانتقامية، والقطع مع تعيين نفس الوجوه وتكرارها في مختلف المجالس الاستشارية العليا مع منح الأولوية للشباب في هذه المجالس تفاديا لما تتبعناه مؤخرا في تشكيلة المجلس الاقتصادي والاجتماعي الذي تسلل إليه العديد من المتقاعدين والوجوه الميئوس منها، والقطع مع نظام إسناد المسئولية في تدبير الشأن العام دون مساءلة، والقطع مع نظام وضع الدستور بشكل فوقي دون استشارة مسبقة للأحزاب السياسية، ثم القطع مع إنشاء الدولة لأحزاب مدعومة وغير ذلك من الممارسات التي عفا عنها الزمن ولا تواكب العصر ومقومات العهد الديموقراطي الجديد.