سقط نظام 23 يوليو إلا َّ قليلاً. وإذا كان من الحقائق التاريخية المقطوع بصحتها وبتواتر المعلومات المفصلة عنها، أن الانقلاب الذي دبره ضباط من الجيش المصري قبل تسع وخمسين سنة، في ليلة 23 يوليو 1952، كان من تدبير الولاياتالمتحدةالأمريكية، فإن سقوط ما يعرف في التاريخ المعاصر (بثورة 23 يوليو) يوم 25 يناير الماضي، يكتنفه كثير من الغموض، ويبعث على قدر كبير من الشكوك والظنون، ولا تنتهي فيه التفسيرات والتأويلات والتحليلات إلى نتيجة يسلم بها الجميع، وتقطع الشك باليقين. فبعيداً عن العواطف الجياشة والأحاسيس الانفعالية والهزات النفسية والأشواق الوجدانية والأحلام الوهمية، فإن المحلل الذي يلتزم الموضوعية المجردة في تعامله مع الحدث، لا يكاد يصل إلى نتيجة منطقية تثبت أن ما حصل في مصر، ولا يزال يحصل إلى الآن، مسألة مفروغ من تفسيرها مقطوع بصحة الوصف الذي يطلق عليها، وترقى فوق مستوى الشك. فلا يزال هنا نقط كثيرة تطرح علامات استفهام كبيرة، تحتاج إلى الإجابة المقنعة الشافية للغليل، كما تقول العرب. هناك أمور مريبة تثبت أن التدخل الأجنبي غير مستبعد، وأن ما حدث لم يكن ليحدث بالصورة التي تمّ بها، لو لم يكن ثمة عنصر خارجي، بأي شكل من الأشكال. لقد طرح الكاتب الصحافي أنيس منصور، في عموده اليومي بجريدة (الأهرام)، هذه المسألة بصيغة توجه يد الاتهام إلى حبيب العادلي وزير الداخلية السابق، الذي قضى في وزارة الداخلية سنوات طويلة، وكان قبل ذلك مديراً لجهاز مباحث أمن الدولة. وذهب محللون صحافيون إلى الربط بين الاهتمام الدقيق المبالغ فيه الذي أبدته الإدارة الأمريكية بثورة الشباب في مصر، من خلال التصريحات المتعددة، سواء من الرئيس باراك أوباما، أو من وزيرة الخارجية، أو من الناطق الرسمي باسم البيت الأبيض، أو من أطراف أخرى في الإدارة الأمريكية، وهي التصريحات التي كان بعضها يتناقض مع بعض، وبين عودة عدد من المصريين الذي يحملون الجنسية الأمريكية إلى مصر، وشروعهم فوراً في الإدلاء بالتصريحات للصحافة، وكأنهم طرف مشارك فيما يحدث، ومنهم الدكتور أحمد زويل الحائز على جائزة نوبل الذي صرح لإحدى القنوات الأجنبية، أنه التقى مع اللواء عمر سليمان الذي كان قد عين قبل ساعات نائباً لرئيس الجمهورية مباشرة بعد وصوله إلى القاهرة. (وصلها في الساعة الرابعة صباحاً، والتقي مع المسؤول المصري الكبير في الساعة السادسة صباحاً). هكذا صرح في مقابلة تليفزيونية. كذلك ربط المحللون بين عودة الدكتور محمد البرادعي إلى مصر بعد 25 يناير بقليل، وانخراطه في الإدلاء بالتصريحات القوية ضد الرئيس مبارك، وبين ما حدث فيما بعد. والدكتور محمد البرادعي يحمل ثلاث جنسيات، أمريكية ونمساوية، ومصرية بطبيعة الحال. وكان قد عاش لفترة طويلة في الولاياتالمتحدةالأمريكية، وبالدعم الأمريكي أولا ً وقبل كل شيء، وصل إلى منصب المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية. وقرأت لمن يضيف إلى الاسمين البارزين اللذين أشرت إليهما، اسماً ثالثاً، هو الدكتور مأمون فندي، أستاذ العلوم السياسية في إحدى الجامعات الأمريكية، الذي انتقل قبل سنتين إلى إحدى الجامعات البريطانية ليدرس فيها العلوم السياسية، والذي كان مقيماً في القاهرة طوال الأسابيع الثلاثة التي استغرقتها ثورة الشباب، ولا يزال، وكان لا يكف عن الإدلاء بالتصريحات للصحافة وللفضائيات، وعن الكتابة في إحدى الصحف العربية التي تصدر من لندن، في الهجوم الشديد على النظام والانحياز المطلق إلى الشباب المصري الثائر المحتج. والدكتور مامون فندي، يحمل الجنسية الأمريكية منذ سنوات. كما يربط محللون آخرون بين ما حدث وبين وجود الصحافي والمعلق الأمريكي الشهير توماس فريدمان في القاهرة طوال الفترة الأخيرة، ونشره لمقالات عديدة في أرقى الصحف الأمريكية، عن الوضع في مصر واكب فيها ثورة الشباب مندفعاً متحمساً منحازاً بالكامل إلى الثائرين المحتجين. والصحافي توماس فريدمان هو أحد أبرز المعلقين السياسيين في الولاياتالمتحدةالأمريكية، ومقالاته تنشر على نطاق واسع داخل أمريكا وخارجها، وتواظب إحدى الصحف العربية التي تصدر من خارج العالم العربي، على ترجمة مقالاته ونشرها، بترتيب خاص مع صحيفة (نيويورك تايمز) الأمريكية. ومما يورده بعض المحللين من حجج لإثبات التدخل الأجنبي في ثورة الشباب في مصر، أن الرئيس باراك أوباما ألقى بياناً مثيراً للانتباه، مباشرة بعد الإعلان عن تنحي الرئيس مبارك، خصصه للقضية المصرية تحديداً دون غيرها من القضايا. ويرى هؤلاء المحللون أن هذه سابقة في السياسة الدولية، وأسلوب في التعامل مع الدول غير معهود، وشكل من أشكال التدخل في الشؤون الداخلية للدول يتعارض مع القوانين الدولية، بل يتعارض كلياً مع وثيقة الاستقلال ومع الدستور الأمريكي. فهل تعيد واشنطن رسم خرائط المنطقة على غرار ما فعلت في مطلع النصف الثاني من القرن العشرين؟. هل الأزمة التي وقعت فيها الولاياتالمتحدةالأمريكية في العراق وأفغانستان، بل المستنقع الآسن الذي سقطت فيه، وراء إعادة رسم الخرائط في الشرق الأوسط؟. أكاد أن أجزم أن نشر الوثائق الأمريكية عبر موقع ويكيليكس له صلة بما حدث في المنطقة العربية، وبما لا يزال يحدث هنا وهناك. ليس معنى هذا أن ثورة 25 يناير في مصر لم تكن ثورة شعب أراد الحرية والديمقراطية والحياة الكريمة. وليس معنى هذا أن شباب الثورة، الذين هم من أطياف متعددة، ليسوا شباباً وطنيين خرجوا للشاعر من أجل وطن حر لمواطنين أحرار. وليس معنى هذا أن التجاوب المطلق للشعب المصري مع ثورة الشباب، لا يستند إلى أساس صحيح من الوطنية المصرية المتجذرة في نفوس المواطنين المصريين. لا. ليس هذا هو المقصود من القول بوجود عنصر خارجي حرض الشباب، ودفع بهم إلى الاحتجاج ضد النظام، وإنما القصد من ذلك كله، أن ثورة الشباب في مصر صادفت هوى في نفوس القوى العظمى التي تقف خلف مسرح السياسة العالمية، تمسك بالخيوط من كل الألوان والأطياف، وأن هذه القوى، وهي تحديداً الولاياتالمتحدةالأمريكية، تعرف كيف تجس نبض الشعوب، فتبادر إلى إشعال الفتيل للانطلاق في حملات احتجاج ورفض ورفع للمطالب التي تبدأ اقتصادية اجتماعية، ثم تنقلب إلى مطالب سياسية تمس صميم الأنظمة الحاكمة، لتحقيق أهداف، إن كانت في الظاهر تخدم المصالح العليا للشعوب، فهي في الوقت نفسه، وعبر طرق ملتوية، تخدم المصالح العليا للقوى العظمى. هل هذا تناقض؟. قد يبدو الأمر للوهلة الأولى، وكأنه تناقض، ولكن عند التأمل العميق، نجد أن المسرح قد انفتح للاعبين كثير، منهم لاعبون أصلاء يجيدون قواعد اللعبة، ومنهم هواة، ومنهم حواة، ومنهم جناة أيضاً. لأن اختلاط الحابل بالنابل هنا، هو أحد الأهداف المرسومة، التي لا يدركه إلا من أوتي حظاً من الفهم السليم لماجريات الأحداث في عمقها. لقد دهشت، بل أقول ذهلت، من شباب ميدان التحرير الذين كانوا يدلون بتصريحات لوسائل الإعلام، وكانوا يبدون على قدر مدهش من الثقة بالنفس، ومن الانضباط اللفظي، ومن استخدام مفردات مبتكرة غير مألوفة، ومن معرفة الهدف من احتجاجاتهم، في لغة واضحة لا لبس فيها. فمن أين جاء هؤلاء؟. من جاء بهم؟. كيف تآلفوا، وانسجموا، وتوحدوا، وهم من أطياف متعددة ومن بيئات اجتماعية مختلفة؟. أليس من حق من يستخدم عقله الذي وهبه الله إيّاه، أن يطرح هذه الأسئلة؟. أليس من حق مصر العظيمة علينا جميعاً عرباً ومسلمين أن نفكر من أجلها، وأن نبحث عن الإجابة الصحيحة لهذا السيل من الأسئلة التي تتعلق بحاضرها وبمستقبلها؟. فماذا يمكن أن يستنتج من هذا الترابط والتداخل والتشابك بين هذه المواقف والمبادرات والسياسات، وبين الواقع في مصر؟. الذي يمكن استنتاجه، أتركه للقارئ اللبيب، لأن الأمر شديد الوضوح. ولكن السؤال الذي يرد في هذا السياق، هو : لماذا حدث ما حدث بهذا الإخراج المبهر وبهذا الدويّ الصاخب؟. أما الإخراج المبهر، فهو صناعة أمريكية في المقام الأول ودون أدنى شك. فقد حدث ما حدث في مصر بإخراج فائق الجودة بالغ الإثارة شديد الإبهار. والتفاصيل معروفة للجميع. وأما الدويّ الصاخب، فهو أمر واقع، ولا يزال مستمراً، ويتوقع الخبراء والمحللون السياسيون والمعلقون أنه ربما يطول، ما دامت الأوضاع لم تستقر بالقدر الكافي حتى الآن، وما دام (الميدان) لا يزال يغلي، وقبل هذا وذاك، ما دام نظام يوليو لم يسقط بالكامل. ولذلك بدأت هذا المقال بجملة (سقط نظام 23 يوليو إلا َّ قليلا ً). وأحسب أن عبارة (إلا َّ قليلا ً) هذه ستبقى إلى أمد لا أملك أن أحدده. إن أحداً لا يجادل في أن نظام حسني مبارك كان نظاماً فاسداً من وجوه كثيرة، وأن الولد المدلل جمال مبارك وزمرته الفاسدة، كان أحد رموز هذا الفساد المريع، وأن صفوت الشريف، ضابط المخابرات المشبوه الذي ارتقى فجأة إلى منصب رئيس هيئة الاستعلامات العامة (الإعلام الخارجي)، ومنها انتقل إلى منصب وزير الإعلام، واستمر فيه عشرين سنة كاملة، قبل أن ينتقل إلى منصب رئيس مجلس الشورى، الغرفة الثانية للبرلمان، ويجمع بين هذا المنصب وبن الأمانة العامة للحزب الوطني الديمقراطي، إضافة إلى رئاسة المجلس الأعلى للصحافة الذي يملك الصحف الرسمية التي يطلق عليها في مصر (الصحف القومية) أي الوطنية هذا الرجل صفوت الشريف كان أحد رموز الفساد، أما ثالث هذه الرموز، فهو الدكتور أحمد فتحي سرور، رئيس مجلس الشعب الذي كان وزيراً للتعليم، والذي اشتهر بالمقولة البئيسة التي كان يرددها، وهي : (المجلس سيد قراره)، رافضاً بذلك أحكام القضاء في إسقاط عضوية المجلس عن المزورين الفاسدين الذين اشتروا الأصوات بالأموال وبالتزوير من خلال الإدارة. وثمة فاسدون آخرون كانوا يملأون شتى المواقع، ويلطخون وجه مصر الجميل، ويخونون الوطن، ويفقرون شعب مصر العظيم. ولكن ثورة الشباب لم تقم بالتطهير اللازم، وهي لا تملك، حتى الآن على الأقل، القدرة على ممارسة التطهير الشامل حتى يمكن القول إن نظام 23 يوليو 1952 قد سقط تماماً. ولذلك يطرح هذا السؤال : ما معنى قيام الثورة الشبابية الإصلاحية التغييرية، مع بقاء أجهزة الأمن على ما كانت عليه، وبقاء الحزب الوطني الديمقراطي كما هو، وإن كان بدون رئيس وبدون أمين عام؟. وما معنى بقاء الحكومة التي عينها الرئيس المخلوع، ومنها وزراء نافذون منذ عهد الاتحاد الاشتراكي، أذكر منهم الدكتور مفيد شهاب؟. وما معنى عدم إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، سواء من اعتقل أثناء الثورة، أو من اعتقل في الفترات السابقة؟. ما معنى هذا كله؟. أليس في الأمر ما يحير ويثير التساؤل، بل يبعث على القلق على مصير مصر العظيمة التي تستحق أن تسترجع عافيتها وريادتها الحضارية؟. لقد جرت الانقلابات العسكرية المصائب والهزائم والانكسارات والأزمات والمشاكل على العالم العربي منذ انقلاب 23 يوليو سنة 1952، حيث أفسدت الحياة السياسية، وأفسدت الفكر العربي، بل أفسدت العقل العربي، ليس فقط في البلدان التي اكتوت بنار الانقلابات العسكرية، بل في مجموع البلدان العربية دون استثناء. ولذلك كان سقوط نظام 23 يوليو بالكامل ضرورة مؤكدة، تطهيراً من جرثومة الانقلابات العسكرية، وللانتقال إلى المرحلة الجديدة، بل الانتقال إلى الركب الإنساني الزاحف نحو الأمام.