وأخيرا تحققت رؤيا العديد من رجال السياسة الذين توقعوا حتمية انهيار الأنظمة السياسية العربية ذات الحكم المطلق عاجلا أو آجلا ، بعدما طال أمد الانتظار أكثر من اللازم إلى حد تباهي حكام هذه الدول العربية والإسلامية بانفلاتهم من زمن الثورة والانقلاب والمساءلة السياسية والجنائية الدولية، علما أن أنظمة شبيهة لها بأوربا وأمريكا نالت نفس المصير، مما يتحتم معه الهرولة نحو تسريع وتيرة الإصلاحات الدستورية والسياسية في هذه البلدان وغيرها بشكل متوافق عليه مع الأحزاب السياسية قبل فوات الأوان. ولقد استبق المغرب الأحداث بعقد من الزمن مستنضجا بعض الإصلاحات الهامة على المستوى السياسي والحقوقي والاقتصادي والاجتماعي بالرغم من تكلفتها الثقيلة، علما أنه مقارنة بغيره من العديد من البلدان العربية والنامية يعاني بدوره من تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية ومن ارتفاع سعر البترول ومن مخلفات الكوارث الطبيعية، مواصلا جهوده في مسيرة البناء والنماء. ولا شك أن حكومة الأستاذ عباس الفاسي لا تزال عند حسن ظن جلالة الملك والشعب المغربي في كونها حسنت من مؤشرات التنمية بشكل ملحوظ على مختلف المستويات، في إطار الإمكانات المالية والطبيعية والبشرية المتاحة، وتدل الأرقام دلالة واضحة على ذلك من خلال ارتفاع معدل النمو إلى 5 % بالمائة وانخفاض نسبة البطالة إلى 9 بالمائة وارتفاع معدل الاستثمارات بشكل ملحوظ وتحسن مستوى المعيشة بفضل فك العزلة عن العالم القروي وبناء الطرق والموانئ والتزويد بالماء الشروب والإنارة وغيرها. لقد التزمت الحكومة بالتزاماتها الاجتماعية حينما عملت على مأسسة الحوار الاجتماعي بغلاف مالي ناهز 20 مليار درهم، وحسنت من وضعية العديد من الموظفين ذوي السلاليم الدنيا، وخصصت تعويضا لحوالي 60 ألف موظف في المناطق الصعبة بميزانية 350 مليون درهم، وحذفت السلاليم الأربعة الدنيا وخصصت ميزانية قرابة 60 بالمائة للقطاعات الاجتماعية، كقطاع التعليم الذي يلتهم قرابة 48 مليار درهم من ميزانية 2011، والصحة والوظيفة العمومية والبنيات التحتية الأساسية إضافة إلى الرفع من غلاف صندوق المقاصة من 20 إلى 36 مليار درهم لضمان استقرار أسعار المواد النفطية والمواد الأساسية. إن الاعتراف بكون المغرب حقق على أرض الواقع نتائج تنموية إيجابية لا يحول دون الاعتراف بأن ثمة نواقص تعتري هذه المسيرة التنموية الفتية، من منطلق كون المغرب يراكم عقودا من التخلف، يستحيل معه الاستجابة لكل ذلك في ظرف بضع سنين، مما يتطلب معه توسيع دائرة الصبر ومساحة الانتظار في إطار سلم اجتماعي متوافق عليه، وبالرغم من ذلك ففي ظل أجواء الحرية شهد المغرب قرابة 2000 حركة احتجاجية نقابية وجمعوية ومهنية اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية وغيرها، همت قطاعات حكومية في الداخلية و العدل والتعليم وغيرها ،وهمت الجماعات المحلية سواء بشأن غلاء أسعار الماء أو الكهرباء أو السكنى أو الخدمات الأساسية، كما همت المجتمع الدولي بشأن القضية الوطنية الأولى واستنكار مخلفات العولمة وغطرسة الكيان الصهيوني وغيرها من دول الغرب في تدخلها في سيادة بعض الدول العربية والإسلامية وغيرها... لا تزال الحركات الاجتماعية تتمظهر بشكل سلمي وحضاري أمام المؤسسات الحكومية والبرلمانية، حيث أن قطاع العدل بمفرده عرف قرابة 50 إضرابا نقابيا، وهو ما كلف خزينة الدولة أزيد من 3 ملايير ونصف درهم، ويخسر المغرب أكثر من 15 مليار درهم بسبب عدم جودة نظامه التعليمي سواء بسبب كثرة التغيبات أو ظاهرة الرسوب والتكرار، كما ارتفعت حسب وزارة الشغل نسبة الإضرابات ب8 بالمائة مقارنة بالسنة الفارطة، ب169 إضرابا عوض 156، كما تم تجنب 605 إضراب بتدخل من مصالح وزارة التشغيل، مما أدى إلى ربح 53621 يوما. إن ما يتطلب معه دق ناقوس الخطر هو أن إضافة إلى الاختلالات التي يعرفها المشهد السياسي يتعين الاعتراف بهشاشة النقابات أيضا إضافة إلى هشاشة الأحزاب السياسية، حيث لا يعرف المشهد النقابي سوى 5 نقابات مركزية معترف بها بينما لا تزال أزيد من 40 نقابة غير معترف بها، ولقد شهدنا في فاتح ماي الأخير خيبة آمال الرأي العام الوطني من خلال ضعف المسيرات العمالية كما وكيفا، حيث تظاهر فيها حوالي 65 ألف مشارك على الصعيد الوطني، بعدما كانت تتم ب 200 ألف مشارك سابقا، كما أننا سجلنا في فاتح ماي الأخير ضعفا واضحا وتراجعا ملموسا على مستوى التجمعات الخطابية التي افتقدت إلى حسن التنظيم وإلى هاجس الإصغاء والانتباه إلى الكلمات الخطابية المفتقدة للحماسة والحس الوطني الرزين والغيور على القيم الوطنية النبيلة، مما جعل الحكومة تلتجئ اليوم في إطار الحوار إلى هيكلة الوضع النقابي المتشرذم بتهيئ مشروعين اثنين أساسيين يتعلقان بقانون النقابات وقانون الإضراب وتوسيع دائرة الحريات النقابية. إن ما يقع اليوم في بعض البلدان العربية من احتقان اجتماعي من الصعب تحققه في المغرب،وذلك لما قطعه المغرب من أشواط هامة في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية،حيث حسب تقرير سنة 2010 أعلنت مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية بتعاون مع مؤسسة «صندوق السلام» أن المغرب يصنف من بين الدول ذات الوضع المستقر وليس من بين الخانات الثلاث الأخرى، أي الدول الحرجة أو الدول ذات الوضع الخطير أو الدول الأكثر استقرارا، كما أن المغرب احتل الرتبة 67 عالميا من أصل 100 دولة على سلم المؤشر الدولي المصنف لدول العالم من حيث توافر عناصر الحياة، ويصنف أيضا في الرتبة 85 ضمن 178 دولة حسب تقرير مؤشر الفساد لسنة 2010 ،الذي تعده منظمة الشفافية الدولية، كما يصنف في المرتبة 62 من بين 110 دولة على مؤشر «الرفاه» لسنة 2010، الذي يصدره معهد «ليغاتوم الدولي المتخصص في الدراسات المتعلقة بسبل دعم الرفاه في العالم، وهو الخامس عربيا بعد الإمارات العربية والسعودية والكويت وتونس،دون إغفال أن المغرب احتل في التقرير العشرين لبرنامج الأممالمتحدة للتنمية مؤخرا حول التنمية البشرية الرتبة 114 من أصل 169 بلدا بعدما احتل الرتبة 130 في السنة الماضية بتقدمه ب 16 نقطة، بفضل برامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي استفاد منها 5 ملايين مغربي بغلاف مالي فاق 10 ملايير درهم،تسريع لوتيرة التحولات الاجتماعية وإشاعة لعنصر الثقة في المستقبل. إن المغرب إذ يعيش سلما اجتماعيا بفضل وعي الفاعلين النقابيين والسياسيين وبفضل المجهودات الملكية والحكومية يبقى معه فقط على الباطرونا والقطاع الخاص تقديم الكافي من التضحيات لإحقاق مطالب الطبقة الشغيلة، ليبقى بعد ذلك الإقرار بأن الباب الوحيد الذي من الممكن أن يؤزم أوضاع المغرب لا قدر الله هو باب الانتخابات التشريعية لسنة 2012، بعدما تبين أن الإدارة تهيئ حزب الدولة الجديد لتقلد مهام تدبير الشأن العام في وقت انمحت فيه أحزاب الدولة بثورة شعبية في تونس ومصر والجزائر، فهل لم تتعظ الإدارة من انتفاضة الشعوب ضد أحزاب الدولة الفاسدة؟.