إذا كان الإدراك يعد ميزة من مزايا الإنسان الأساسية ، وعنصرا ضروريا في ممارسة شؤون الحياة ، ووسيلة لبلوغ الغايات ، ينمو مع نمو الشخص ويواكب اشتداد عوده،وعلى ذلك فمنه ما يتم إدراكه بالفطرة ، ومنه ما يحصل بالحدس ، ومنه ما يتم بالتعلم والإفهام ثم الممارسة . فهل يمكن القول إن الإدراك هو الآخر يكون طفلا فيافعا فشابا فكهلا فشيخا،ولذلك فلا يصح الحكم على نوعية الإدراك إلا من خلال المرحلة العمرية التي يمر بها الفرد ، أم أن الإدراك يرتقي عبر سلم آخر،ويمتطي وسائل أخرى،والمرءُ في كل هذه الأحوال والصفات يتفاعل مع مستجدات الحياة وينتقل للتقرير والتنفيذ وجني نتائج إدراك المنفعة أو درء المفسدة . إن الرغبة في الوصول إلى قوة الإدراك وإشعاعه،تقود نحو البحث عن المرحلة الحاسمة في نضجه وارتقائه،هل هي مرحلة بذاتها،أم هي مسيرة الإنسان حتى اللحد،في محيط شامل،يتفاعل معه وبالقدر المتاح له في اللحظة التي يعيشها . أعتقد أن هذا هو عنواننا جميعا في بيئاتنا،من خلال ممارستنا لشؤون حياتنا،في تحليلاتنا ومع طقوسنا ومعتقداتنا . فالمسافة بين الإدراك والتمييز ثم التقرير فالتنفيذ هي حصيلة أكيدة لمجموعة من المعطيات التربوية والتعليمية الحسية والمعنوية،ومجموعة من الممارسات الموجهة والمهملة،وتركيبة نفسية بحسن ظن أو سوء نية،ثم قدرة وصمود وعزيمة،أو تواكل وخنوع وانسلاخ من كل الجذور . وعلى هذا الأساس تتكاثر المظاهر المشينة في مجتمع ما،أو تقل من خلال حالات الربط والتوفيق بين الإدراك ثم التقرير فالتنفيذ ومعطيات المناخ المتوفر.فتكثر الأمية حيث يعشش التخلف،وتتناسل الأمراض حيث تقل النظافة وتنتشر الأوساخ والحشرات والجراثيم،وتتدنى همة الإنسان ويملأ الخوف وجدانه حيث تتصدر الجرائم الساحات . وبالمقابل أينما ازدهر العلم تفتقت الأذهان عن مكنوناتها المدهشة ، وتقدمت الدول وازدهرت،وكلما عم الوعي بخطورة الأمراض وأسبابها وقفت لها النفوس بالمرصاد حماية للأبدان والعقول ، وإذا تمركز الحق والعدل سادت الشرعية الناجعة المستقلة عن الأهواء،ومتى ما ضرب على يد المجرم انتشرت الطمأنينة واكتسب الإنسان الثقة في النفس . ولو تمعن أحدنا في الزمن الذي يحتويه الآن لما اعتراه الشك في أنه يختلف اختلافا عميقا عما سطره التاريخ لقرون مضت،مغاير له في مده العمراني والجغرافي ، في لغاته ولهجاته التي تكاد تتعدد بتعدد مدنه وقراه ، فتشعبت ثقافات شعوبه وتنوعت مفاهيم سكانه،لدرجة يكاد يجهل مثقفوه وعلماؤه وفنانوه بعضهم البعض،وكل يغني على ليلاه بسمفونية تُواصِل ليلها بنهارها . كما أن الكتابات والدراسات لم تعد متجانسة في الموضوع الواحد ، والتحليلات لم تعد تصب في نفس الخانات،ولا تحمل نفس الحلول،وغدت كل الآراء تعرض مفاهيمها بمنطقها وأسلوبها،ناهيك بنظرة فئات من الناس للأخلاق والشهامة والعفة والنبل،فتلك أضحت في زمننا خرافة قد لا تروَى حتى للأطفال عند نومهم . ترى أين يرى الواحد منا نفسه في هذه الأيام ؟ بل أين يحب أن يراها ؟ شرقا أم غربا؟ شمالا أم جنوبا ؟ أو أين يحلم أن يعيش ؟ أفي الماضي السحيق أم المتوسط أم القريب ؟ . هي أسئلة ما أكثر ما تخطر على البال ، وقد يعجز المرء عن الحكم على مدى سلامة الطريق بين الإدراك والتقرير ، فالتنفيذ حيث تحط الرحال .