يتبين لمتدبر القرآن الكريم، ومتأمل الأحاديث النبوية الشّريفة، أن هذه النصوص المقدسة دفاع عميق شامل واسع الآفاق عن الحرية الإنسانية أسمى ما تكون، وأنفع ما تتجلى، وأكمل ما تتحقق في الوجود. إن دعوة الإسلام إلى توحيد الله سبحانه وتعالى هي جوهر رسالة القرآن الكريم والسنة الطاهرة، وهي، في الحقيقة، دعوة إلى الحرية. فإذ يبرهن الإسلام على الحقيقة الإلهية، والحقيقة المحمدية، حيث تتجليان في العقيدة والشريعة الإسلامية، في الأحكام، والأخلاق، والآداب، والتصوّر الإسلامي للإنسان والعالم والحياة، يدافع، في نفس الوقت، ومن نفس المنطلق، عن حرية الإنسان التي لاتتحقق إلا في ظلال التوحيد الذي دعا إليه كل الرسل، وشكل جوهر جميع الرسالات الإلهية: (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين، أن لاتعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم) [سورة هود: 25 26]، (وإلى عاد أخاهم هودا. قال ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره. إن أنتم إلا مفترون) [سورة هود: 50]، (وإلى ثمود أخاهم صالحا. قال ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره. هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه. إن ربي قريب مجيب) [سورة هود: 61]، (وإلى مدين أخاهم شعيبا: قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره. ولا تنقصوا المكيال والميزان. إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط) [سورة هود: 84]. وبعد أن استعرض القرآن الكريم قصص الأنبياء مع أقوامهم، واستماتتهم في الدفاع عن الحرية الدينية، التي هي فضاء الاقتناع بعقيدة التوحيد، وأفق الاستمداد من حقائقه في تزكية النفس، وتقويم السلوك، وتحرير الفكر، وبناء المجتمع، ورفع صرح الحضارة، أشار الحق سبحانه إلى مغزى ذلك القصص الزاخر بمواقف الدفاع عن الحرية، حرية العقل، وحرية التعبير، وحرية التدين، وحرية الفرد والجماعة، وحرية الإرادة، فقال عز من قائل: (ذلك من أنباء القرى نقصه عليك، منها قائم وحصيد. وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم. فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك. ومازادوهم غير تتبيب. وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة، إن أخذه أليم شديد. إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود. وما نؤخره إلا لأجل معدود) [سورة هود: 100 104]/ القصص القرآني ناطق بهذه الحقيقة بأبلغ بيان حيث صور تصويرا فنيا رائعا أسمى المواقف الإنسانية في الدفاع عن الحرية، سواء من خلال القدوات النبوية النورانية، وفي مقدمة كوكبتها الزاهرة سيد الوجود مولانا محمد صلى الله عليه وسلم، أو من خلال أتباع الرسل الذين ضحوا في سبيل الحرية الدينية، والحرية الفكرية، والحرية التعبيرية، بالنفس والنفيس، بعد أن ارتشفوا من مناهل الصفا النبوي حقيقة ترادف الحق والحرية، والتحقق والتحرر، والتحقيق والتحرير. فلم يفهموا الحرية بعيدة عن الحقيقة أو مضادة لها ولم يفهموا الحقيقة بعيدة عن الحرية أو مضادة لها، بل اقتنعوا بالدليل والبرهان بأن الإيمان بالحق والعمل به هو عين الحرية، مثلما اقتنعوا بأن الحرية من أينع ثمار الإيمان بالحق والعمل به. إن هذه النماذج النورانية هي التي رسمت الطريق الصحيح إلى الحرية، وقدمت البرهان على أن الحرية والحقيقة متداخلان، مترادفان، متكاملان، متوازيان، متلازمان، وكذلك التحرر والتحقق، والتحرير والتحقيق، بالمعنى التربوي الروحي، الذي يثمر معادله الفكري الذهني. هذا ما سنبسط الاستشهاد له والتدليل عليه من نماذج قصص القرآن، حيث سنتحدث عن هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وكيف كانت مهادا للحرية الإنسانية ودفاعا عنها وتأثيلا لها؛ ثم سنتحدث عن المهاجرين والأنصار وكيف جسدوا في التاريخ أروع صور الكفاح من أجل الحرية. ثم نقتبس من قصص ثلاثة أنبياء معالم الصمود الرائع في سبيل حرية الإنسان بمفهومها الحق، وهذه القصص هي قصة سيدنا يوسف عليه السلام، وقصة سيدنا إبراهيم عليه السلام، وقصة سيدنا موسى عليه السلام، مع الإشارة إلى تضحية مؤمن آل فرعون والسحرة الذين اقتنعوا برسالة سيدنا موسى في سبيل حرية الفكر، وحرية الدين، وحرية الإرادة، أي تقديس الحقيقة، والاستماتة في التمسك بها والدفاع عنها إلى آخر رمق، وإلى منتهى نفس.