يتصاعد التوتر في لبنان بوتيرة مطردة، ويتعالى في أجواء بلد الأرز، دخان فتنة أوشكت أن تندلع لتأتي على الأخضر واليابس. ويتأكد يوماً بعد يوم، أن أطرافاً أجنبية تسعى جاهدة، لتفجير الوضع في لبنان، تحقيقاً لمصالح لها، تتوهم أن قلب الأوضاع في هذا البلد يخدمها، وتدفع بطرف لبناني ليحمل السلاح بالنيابة عنها، من أجل تنفيذ خطة جهنمية سيكون هذا الطرف أول ضحاياها، بدون أدنى شك. ومنذ فترة وحزب الله في لبنان يهدد ويتوعد بما يسميه (الحسم)، ما لم يقع الاتفاق على أمرين غير واقعيين هما أقرب إلى الوهم : وقف المحكمة الدولية التي تشكلت بموجب قرار من مجلس الأمن، لتحقق في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، أو إعلان موقف مسبق من قرار الاتهام الذي من المتوقع أن تصدره المحكمة الدولية في غضون الأيام القليلة القادمة، بحيث يخلى سبيل حزب الله المهدد، حسب افتراضه هو، بتوجيه الاتهام إليه بتورط عناصر قيادية منه، في اغتيال الزعيم اللبناني رفيق الحريري. وكما هو واضح وضوح الشمس في رابعة النهار، فإن كلا الأمرين، أو الشرطين اللذين تقدم بهما حزب الله، يخرجان عن الإمكان، ولا يملك أحد، سواء في لبنان أو في أي دولة من العالم، تنفيذهما، لأن المسألة ببساطة، أصبحت من اختصاص المحكمة الدولية. إن توجيه الاتهامات جزافاً إلى المحكمة الدولية بأنها خاضعة لضغوط سياسية، ليس إلا نفخاً في قربة مثقوبة. والسعي المتواصل في محاولة فاشلة من البداية، للتأثير في قرار المحكمة الدولية، باطل في باطل ووهم من الأوهام وقبض الريح؛ لأن المحكمة الدولية تمثل الشرعية الدولية، أراد من أراد وأبى من أبى، ولأن التناطح مع الشرعية الدولية، عبث في عبث، بقدر ما هو لعب بالنار في بلد قابل للاشتعال ومرشح للانفجار. أقرأ في هذه الأيام كتاباً جديداً للكاتب المحلل السياسي الإنجليزي الشهير باتريك سيل، صدرت أخيراً ترجمته العربية عن الدار العربية للعلوم ناشرون في بيروت، بعنوان : (رياض الصلح والنضال من أجل الاستقلال العربي)، يقع في ثمانمائة صفحة من القطع الكبير. ومن المعلوم أن الزعيم اللبناني الكبير رياض الصلح، الذي هو أول رئيس وزراء في لبنان بعد نيله الاستقلال، اغتيل في شهر يوليو سنة 1951، أثناء وجوده في زيارة مفاجئة وسريعة إلى العاصمة الأردنية عمان حينما كان متوجهاً إلى المطار للمغادرة. وقد وجه الاتهام عهدئذ إلى عناصر من الحزب القومي السوري. والكتاب سباحة في بحر الشرق الأوسط متلاطم الأمواج، وعرض موسع للأوضاع في المنطقة، منذ أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حينما كانت (الولايات العربية) التي تجمع بلاد الشام (سوريا ولبنان والأردن وفلسطين)، إضافة إلى العراق، جزءاً من الإمبراطورية العثمانية. ثم يواصل الإبحار إلى مطلع الخمسينيات. وقد عمل والد رياض الصلح، رضا الصلح، متصرفاً (محافظاً، عاملاً، والياً) في مدينة سالونيك التركية، في عهد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، وكان عضواً في (مجلس المبعوثان) البرلمان ، حيث أقام مع أفراد أسرته في استانبول فترة، فنشأ الإبن رياض الصلح يتحدث التركية، ثم تفوق في دراسته للغة الفرنسية، وتشبع بالأفكار الأوروبية الليبرالية، وعاش حياة نضالية حافلة بالمواقف الوطنية، ليس فحسب على المستوى المحلي في بلده لبنان، وإنما على الصعيد العربي، إذ كان أحد أقطاب العمل العربي المشترك، قبل تأسيس جامعة الدول العربية وبعدها، وساهم بنصيب وافر، في الدفاع عن القضية الفلسطينية، وعاش من موقع النضال، مختلف المراحل الصعبة التي مرت بها هذه القضية، منذ وعد بلفور سنة 1917، ومروراً بأحداث أواخر العشرينيات ومنتصف الثلاثينيات، ثم بالحرب العربية الإسرائيلية سنة 1948، وانتهاء بالمحادثات بين الجانبين العربي والإسرائيلي التي جرت في جزيرة رودس، وانتهت إل التوقيع على اتفاقات الهدنة بين إسرائيل وكل من سوريا ولبنان ومصر. لقد وجدت أن ثمة رابطاً بين هذا الكتاب التوثيقي المهم، الذي يعدّ مرجعاً ذا قيمة أكاديمية لا تنكر، وبين الأوضاع الحالية في لبنان التي لا يشك أحد في أنها باتت تنذر بأوخم العواقب. يقول باتريك سيل في مقدمة كتابه : «أرجو أن يساعد هذا الكتاب في الكشف عن جذور العديد من الصراعات والأزمات التي تعصف بالمنطقة اليوم. يمكن العودة بهذه الجذور إلى النصف الأول من القرن العشرين، وهي الفترة التي شهدت العنف والحروب والمذابح وإعادة رسم الخرائط بتعجرف فادح». ويبرز لنا الكتاب كيف أن رياض الصلح قد شارك بنشاط واسع في صناعة تاريخ هذه الحقبة، وهو تاريخ يقول المؤلف نسيه الرأي العام إلى حد كبير حتى في المنطقة نفسها. وهذا صحيح إلى أبعد الحدود؛ لأن ثمة أطرافاً متعددة تسعى بكل الوسائل، لطمس الحقائق، ولقطع صلة الأجيال الجديدة بتاريخ المنطقة، لتنفيذ مخططات استعمارية جديدة ليس من شك أن لبعض الأطراف العربية ضلوعاً فيها، سواء داخل لبنان أو خارجه. لقد كان اغتيال الزعيم اللبناني الكبير رياض الصلح مؤامرة تورطت فيها أطراف ثلاثة، فرنسا وإنجلترا اللتان كانتا تتنافسان في الانفراد بالمنطقة برمتها، وإسرائيل التي كانت تعمل من أجل ترسيخ وجودها اللاشرعي في المنطقة. أما الحزب القومي السوري (اللبناني الأصل الذي كان يعارض التوجّهات العربية في المنطقة، وينادي بسوريا الكبرى غير العربية، ويعمل ضد العروبة والإسلام، ويرتبط بصلات عمالة مع أطراف إقليمية ودولية)، فقد كان أداة لتنفيذ المؤامرة. أما لماذا استهداف الزعيم رياض الصلح؟، فلأنه كان أحد قادة السياسة العربية، والمدافعين بقوة عن استقلال لبنان وسيادة الدولة اللبنانية، والمعارضين بصلابة للنفوذ الأجنبي، خاصة النفوذ الفرنسي الذي كان مبسوطاً على لبنان، وكانت فرنسا غير راضية على الدستور اللبناني، الذي ساهم رياض الصلح مساهمة كبيرة في صياغته، بحيث خلا من أي ارتباط مع دولة الانتداب السابقة. فمن أجل الروح العربية الاستقلالية التي تملأ جوانحه، والإخلاص في الوطنية الذي كان خلقه ومنهجه، والتعلق بالوطن والدفاع عن سيادته الكاملة غير المنقوصة اللذين كانا من خصاله المميزة، سقط رياض الصلح شهيداً في ساحة العمل العربي في مطلع خمسينيات القرن الماضي، على أيدي مواطنين لبنانيين تم استغلالهم لينفذوا الجريمة خارج التراب الوطني. يقول باتريك سيل إن صلة إسرائيل في اغتيال رياض الصلح محتملة، إذ لا يمكن استبعاد هذا الاحتمال لاسيما أن إسرائيل خططت لقتله قبل ثمانية عشر شهراً في شتاء 1949، فقد كانت وزارة الخارجية الإسرائيلية برئاسة موشي شاريت في ذلك الوقت، تريد التخلص منه، فقد اعتبرته أكثر الزعماء العرب تطرفاً وخطورة، لأنه لعب دوراً بارزاً في دفع جامعة الدول العربية للتدخل في فلسطين، ودافع عن القضية العربية في الأممالمتحدة. ثم يخلص المؤلف إلى القول : «من المعقول الاعتقاد أن إسرائيل التي خشيت من جهود رياض الصلح لحشد العرب بعد هزيمتهم ربما قررت في سنة 1951 القيام بمحاولة أخرى للتخلص منه. لكن بدلا ً من المخاطرة باستخدام عميل إسرائيلي مستتر، كان أعضاء الحزب القومي السوري، بقيادة جورج عبد المسيح، جاهزين للقيام بالمهمة، ربما بالتواطؤ مع غلوب باشا ..». وبمناسبة إحياء الذكرى الأولى لاغتيال رياض الصلح، التي جرت في بيروت في 16 يوليو 1952، أرسلت عدة بلدان عربية ممثلين لها. وحضر هذه الذكرى قادماً من القاهرة، الزعيم علال الفاسي، صديق رياض الصلح، فألقى قصيدة عصماء امتدح فيها صفات رياض العديدة، وأشاد بمواقفه العروبية الصلبة وبمساندته للقضية المغربية، وتلا إعلاناً قوياً عن الإيمان بالوحدة العربية (تراجع القصيدة في الجزء الرابع من الديوان). ويقول باتريك سيل في الصفحة 739 من كتابه، واصفاً الأثر الذي أحدثته مشاركة علال في هذه الذكرى التي انقلبت إلى مهرجان عربي كبير للتنديد بالاستعمار وللمطالبة بالاستقلال للعرب كافة : «لقد آثر السفير الفرنسي في بيروت، الابتعاد عن الحفل للتعبير عن استيائه من حضور علال الفاسي، ربما أصبح الاستعمار الأوروبي في وضع دفاعي في ذلك الوقت، لكنه لا يزال بعيداً عن الهزيمة التامة». لقد كانت مشاركة الزعيم علال الفاسي في إحياء الذكرى الأولى لاغتيال رياض الصلح، تعبيراً قوي الدلالة عميق المعنى، عن قوة الروابط التي كانت تجمع زعيم حزب الاستقلال، في تلك المرحلة الدقيقة من تاريخ المنطقة، مع القيادات العربية البارزة التي كان لها دورها المؤثر في الحركة العربية دفاعاً عن فلسطين، ومن أجل استقلال الدول العربية التي كانت عهدئذ خاضعة للاستعمار، ومنها المغرب. فلقد كان علال الفاسي زعيماً عربياً، مؤمناً بالقضايا العربية، مدافعاً عنها بقلمه وبلسانه وبمواقفه وبتحركاته شرقاً وغرباً. ولذلك كان حضوره في بيروت في تلك الفترة الحرجة، تأكيداً لارتباط المغرب بالأسرة العربية، وإعلاناً عن التضامن مع الشعب اللبناني في محنته. وهي المحنة التي تتكرر اليوم. أليس هذا يقربنا كثيراً من قصة رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، الذي سقط هو الآخر شهيداً فوق ثرى لبنان، لأنه كان مدافعاً صلباً عن استقلال بلاده وسيادتها، وعن حق الشعب اللبناني في أن يحيا حراً كريماً بعيداً عن أي وصاية أو تبعية؟. هي إذن قصة متكررة مترابطة الحلقات متتابعة الفصول. ولذلك جاءت المحكمة الدولية لوضع حدّ للاغتيال وللفوضى وللفتنة في لبنان. فمن يعارض المحكمة الدولية، تحت أي دعوى من الدعاوى، إنما يسعى إلى بقاء السيف مصلتاً على رقاب اللبنانيين كافة، ونذر الأزمة تخيّم على المنطقة بكاملها، وليس فحسب على لبنان الجريح. لقد ظهر لاعبون جدد في الساحة اللبنانية، منذ اغتيال رياض الصلح وإلى اليوم، وظهرت حسابات سياسية وإيديولوجية جديدة، يسعى أصحابها إلى فرض وجودهم بالقوة على الأرض، وإلى جعل لبنان ساحة لتصفية حساباتهم فيما بينهم. والضحية في جميع الأحوال، هو الشعب اللبناني، وقيم التعايش والديمقراطية والانفتاح على العالم، التي ازدهرت في هذا البلد طوال العهود السابقة، وبها تبوّأ المكانة التي يتميّز بها بين أشقائه العرب. وتلازمني صورة الوضع الحالي في لبنان، أثناء قراءتي في كتاب باتريك سيل الكاتب المتمكن الذي سبق أن أصدر عدة كتب مرجعية عن المنطقة، أذكر منها على سبيل المثال، ومما يحضرني الآن، (النضال من أجل سورية)، و(الأسد : الصراع على الشرق الأوسط)، و(أبو نضال : بندقية للإيجار). وأجتهد في الربط بين الماضي والحاضر، وجميع فصول الكتاب تغري بهذا الربط، لأصل إلى النتيجة المرعبة التي تتمثل في أن لبنان الدولة العربية المستقلة ذات السيادة الكاملة، وفقاً لميثاق الأممالمتحدة، وميثاق جامعة الدول العربية، وميثاق منظمة المؤتمر الإسلامي، معرض اليوم لأخطار سيكون لها امتداد واسع في المنطقة، ما دامت فئة من الشعب اللبناني تحمل السلاح فوق السلاح الشرعي للدولة، وتهدّد الجميع، وتتحدَّى الشرعية الدولية، في اندفاع أهوج ونزق أخرق غير مأمونين العواقب. فقصة الاغتيال في لبنان لم تنته فصولاً، والعنجهية السياسية والغطرسة الطائفية لا تزالان تتحكمان في السياسة التي ينهجها هؤلاء الذين يجرّون لبنان إلى الهاوية، بل يسوقون المنطقة إلى المجهول، خدمة لأهداف تتعارض كلياً مع المصالح الوطنية اللبنانية. يقول باتريك سيل في تقديمه الصورة الحقيقية للزعيم اللبناني رياض الصلح، رابطاً بين الماضي والحاضر، بأسلوبه ذي الإيحاء المؤثر : «لقد كان صاحب رؤية عن شرق أوسط متحد وديمقراطي، وهي رؤية كرّس لها حياته بأكملها، ومن ثم يقدم نموذجاً ملهماً لجيل اليوم، الذي أصبحت الوحدة والديمقراطية والاستقلال الحقيقي بالنسبة إليه، أهدافاً أبعد منالاً من ذي قبل». وكأن المؤلف كان يضع أمامه صورة لبنان اليوم، ويطرح جميع الاحتمالات القائمة، وهو يكتب عن الزعيم الشهيد. ثم يتحدث عن النضال الذي انخرط فيه رياض الصلح دفاعاً عن لبنان الحر المستقل الآمن والمستقر، فيقول : «كانت حياته سلسلة من البذل والجهد السياسي المتواصل منذ سن مبكرة. انغمس في الأحداث والنقاشات والنضالات التي أرست دعائم الشرق الأوسط الحديث. ولعل فهم ما حاول أن يفعله وما استطاع تحقيقه حتى ما فشل فيه ، يعني فهم التحديات العسيرة التي لا تزال تجابه المنطقة، فقد انتزع استقلال لبنان من الفرنسيين، ويمكن اعتباره من أبرز السياسيين في زمانه». إن التحديات العسيرة التي يشير إليها هنا الكاتب الإنجليزي المطلع على بواطن الأمور وحقائق الأحداث وأسرار التحولات، هي قائمة فعلاً بصورة تبعث الرعب والفزع في النفوس. وفي مقدمة هذه التحديات تحدّي الشرعية الدولية، وتحدّي قرار مجلس الأمن الخاص بنزع سلاح حزب الله حتى لا يكون دولة داخل دولة، بل دولة قائمة الذات تلغي الدستور، وتنتهك المبادئ والقيم اللبنانية التي قامت الدولة اللبنانية على أساسها.