يعكس الإنفاق العام على البحث العلمي في كل قطر حجم ومستوى ومكانة البحث العلمي في الإرادة الوطنية وفي السياسات العمومية، إن الأمر بكل تأكيد لايتعلق بمظهر من مظاهر الترف الفكري، بل إنه يتعلق بأحد أهم الحاجيات الملحة في كل مجتمع، وبقدر ما ارتفعت قيمة ونسبة هذا الإنفاق العام في الميزانيات العمومية كل ما تجلت الأهمية التي يوليها المسؤولون للبحث العلمي، وكل ما انخفضت وتدنت مستويات هذا الإنفاق، كل ما تأكد أن السياسات العمومية لاتكترث للأهمية البالغة لهذه الآلية المهمة والرافعة الأساسية للتنمية. ويحدث في مرات كثيرة جدا ألا يجد البحث العلمي موقعا له وسط تزاحم الاهتمامات والانشغالات وتدافع الأولويات في السياسات العمومية، ويبدو من خلال قراءة متأنية لهذه الميزانيات أن الحكومات تكون مضطرة إلى أن يشمل اهتمامها جميع القطاعات، ولكن الذي يحدث أن جميع القطاعات تجد نفسها في وضعية ليست مريحة، إنها إشكالية تحديد الأولويات في مجال التعاطي مع شؤون ومتطلبات التنمية. بل الأدهى من كل ذلك يثير المتخصصون قضية في غاية الإثارة، ذلك أن بعض الدول (خصوصا في العالم العربي) تفرض قيودا مستجدة على الإنفاق العلمي، «مثل اقتطاع الدولة نسبة من الدعم الخارجي المخصص لمشاريع البحث العلمي، وفرض رسوم جمركية وضرائب على المشتريات العلمية، مثلها مثل أية سلعة تجارية أو استهلاكية. ففي مصر ولبنان مثلا، لا تميز القوانين والأنظمة الجمركية بين مستلزمات البحث والسلع الاستهلاكية، ولا يمكن بمثل هذا التمويل المتواضع الارتقاء بالأداء الإبداعي والبحث العربي، فالموارد المالية هي أكثر ما تحتاجه المؤسسات البحثية العربية لتمويل البنى التحتية للبحوث والتطوير» وطبعا، لايقتصر الأمر على كل هذا، بل لابد من التوقف قليلا عند تركيبة البنية المالية المخصصة للإنفاق العام على البحث العلمي، ونتحدث هنا عن تعقيدات الأنظمة الإدارية والقانونية المعمول بها في صرف ما تيسر من هذا الانفاق الذي تراه غارقا في بؤر الروتين الإداري والبيرقراطية ومتجها بالأساس إلى تغطية تكاليف التأثيث الإداري وصرف رواتب موظفين وعاملين جاء جلهم إلى القطاع للحصول على هذه الرواتب والتحفيزات. المصيبة أن الإنفاق على البحث العلمي في العالم العربي يكاد يقتصر على مصدر واحد يتمثل في التمويل العمومي الذي يغطي 97 بالمائة من التكلفة الاجمالية، بيد أن القطاع الخاص العربي يبدو غير معني بشكل نهائي بتطوير البحث العلمي الذي لو أولاه هذا القطاع قليلا من اهتمامه لساهم في تطوير منتوجه الصناعي والفلاحي والخدماتي، لكن شيئا من هذا لا يحدث، فالاستثمارات الخاصة في العالم العربي مكتفية لحد الآن بمراكمة الأرباح المباشرة ولا رجاء لها في البحث العلمي. ويذكر معهد اليونسكو الاحصائي في تقرير له نشر بتاريخ 10 يونيو 2009 أن 97 بالمائة من الإنفاق على البحث العلمي في العالم العربي متأتية من التمويل العمومي، بمعنى أن 3 بالمائة المتبقية تأتي من غير ذلك، ويمكن القول إن الطفرة التي يعرفها تمويل البحث العلمي من خلال بعض الجامعات ومعاهد التكوين والشركات في الخليج هي التي خفضت النسبة إلى 97 بالمائة، بيد أن معهد اليونسكو الاحصائي يشير بأن نسبة التمويل العمومي في الإنفاق على البحث العلمي لا تتجاوز مثلا في كندا 40 بالمائة وتنخفض هذه النسبة في الولاياتالمتحدة إلى 30 بالمائة وتنزل إلى أقل من 20 بالمائة في اليابان، وهذا يعني أن القطاع الخاص يقبض بمقود التحكم في مسار البحث العلمي، وهذا ما يفسر الثورة التكنولوجيا الهائلة التي حدثت هناك وجعلت بقية الشعوب رهينة لطبيعة هذا التطور الهائل. طبعا، لا يمكن أن نلغي التأثير الكبير للنزاعات السياسية المكتظة في ساحتنا العربية، إذ سرعان ما تتعطل العلاقات الثنائية بين قطرين عربيين لخلاف حول الحدود أو النزاع حول منصب دولي أو لتباين في وجهات النظر حول قضية ما في العالم، وتصبح هناك دول ممانعة ودول الاعتدال وجبهة الرفض والتصدي ،ومسكين البحث العلمي الذي يخجل من أن يعلن عن حضوره في ظل هذا الواقع العربي البئيس. لنتمعن الوضع بين كوريا الجنوبية واليابان مثلا، فخلافاتهما السياسية الحادة لم تمنعهما قط من تكثيف التعاون العلمي بينهما، بيد أن الخلاف المغربي الجزائري حول نزاع مفتعل دفع المسؤولين الجزائريين إلى الانتقام عبر مد أنبوب غاز نحو إسبانيا وإيطاليا وتوقيف العمل بأنبوب الغاز المغاربي الذي يعبر التراب المغربي نحو إسبانيا، ومن هناك إلى أوربا. القضية الواضحة الآن، أن الوضع السياسي والثقافي والاجتماعي العربي لا يستحمل مجرد الحديث عن البحث العلمي، هناك عقلية بدوية سائدة في كثير من أجزاء الخريطة العربية لا تؤمن بالعلم وغارقة في الغيبيات، تجد تربة صالحة في عقلية انتهازية تحصر تفكيرها في الربح السريع دون الحاجة إلى بذل أي جهد يذكر. لذلك نميل إلى الاعتقاد بأن الوضع يستمر كما هو عليه الحال.. إلى إشعار آخر لا يعلم إلا الله زمانه وتوقيته.. وطبيعة مضامين التعبير فيه. bakkali _alam @ hotmail.com