قيمة الشيء تقدير وزنه، أو تمييز صفته، أو تحديد ثمنه، أو ما يسير في هذا الاتجاه عموما. وتمثل أي قيمة من القيم في حد ذاتها قمة الشيء المقصود بذاته ، أو زبدته ومستواه. لذلك لا يتم الحديث عنها أو وصفها إلا من خلال مدلول يدل عليها ، وأجواء فاعلة فيها، وتحديد معالمها للعوام والخواص على السواء. وقد ظهر للمتعلمين والمربين منذ آماد بعيدة ، أهمية الدور الذي تصنعه القيم الخلقية في النفوس لبلورة رؤاها ، وتوضيح مزاياها وترسيخ أهدافها ، مما يجعلها كلما استوطنت القلوب ، وجرت في العروق، تتجاوز بأصحابها محن شعوب بكاملها ، قد تئن تحت وطأتها دهرا من الزمن . كما تكون القيم الخلقية سدا منيعا أمام سذاجة في الرأي ، وميل لما هو بذيء غير ممتع، أو الخنوع لأمر واقع بغثه وسمينه، لأن القيم الأخلاقية هي نبراس الحياة السليمة السوية المستقيمة المنتجة الفاعلة. إلا أن هذا يصعب تحقيقه على نطاق واسع مع نمو ساكنة، ودوران أعوام وسنين، وتشعب حياة، وتعقيد بلوغ مرام، من طلب سلامة عقل وصحة بدن، وتوفير مأوى ومطعم، وتدرج في التعلم، وتوجه نحو التنوير والتطور والارتقاء. إن التعلق بمبدإ القيم يتطلب تضافر جهود عامة الناس وخواصهم، وصبرا ومواظبة بدون كلل أو ملل، حتى تصبح القيم نهجا يتعايش مع نفوس أغلب الناس، مؤسسا روابط وصلات تقوّم المعوج، وتيسر الصعب الممتنع، فيحدث ذلك التغيير المنشود في نمطية الحياة الإنسانية، ويأخذ بالمجتمع نحو آفاق ثراء شاسع الردهات واسع المنافذ، لم يكن بعيد المنال، وإنما كان ينتظر الطارق المؤدب ليرتمي بين أحضانه، يبعث فيه الدفء ويحنو عليه حنو المرضعات على الفطيم . إلا أن المؤسف في المجتمعات المعاصرة أن رموزها وأقطابها وأصحاب الحل والعقد لديها، لم تعد قادرة على توطين القيم الأخلاقية في مساحات شاسعة الأرجاء، ولا تمديد زمنها لآجال طويلة الأمد، وذلك لتعدد الفصائل، واختلاط الأجناس، وتعدد اللغات واللهجات في كل بقعة على الأرض، مما أوجد أرضية خصبة لإمكانية تعايش الأضداد، وائتلاف المتنافر، وتوالد المعتقدات الواهية، وتناسل الانحرافات وأنواع الشذوذ، ونزوح نحو تحكيم قانون الغلبة للأقوى. كما أن الشك بدأ يعتري كثيرا من القيم التي تفصح عنها تصرفات أعداد من الناس، وما يطغى على أعمالهم من ازدواجية المواقف، والعيش بأقنعة شتى، فيوهمون كل من يصادفهم ، اشمئزازهم وقلقهم وحيرتهم، مما يطفح على سطح المجتمع من بذور الشر وتفاقم بؤر الفساد، لتعلم بعد فوات الأوان، أنهم رأس البلاء، وقطب الرحى في كل ما يحصل هنا أو هناك من فتنة وضرر، فتتملكك الدهشة من هؤلاء القوم ، وتفقد السلطة على التمييز بين الشرير والخيِّر ، بين الناصح الواعظ، والمنافق المختلق ، بين المحق والمخادع المراوغ، لأنك أمام أصناف من الناس تمارس الخير قولا والشر فعلا، وتستعمل القناع المناسب لكل موقف استجابة لنداء المصلحة الذاتية ليس غير. أعداد غفيرة من الناس تعيش على مائدة هذه النظرية، تتعامل معها بمنطق النزاهة فتغشك وتخدعك، تأتمنها على أسرار حياتك ومالك فتسرقك دون غضاضة أو حياء، تساعدها وتقف بجوارها ساعة الضراء فتكون جلادك بعد ذلك وهلم جرا.. إن القيم الأخلاقية في الحقيقة أصبحت في الظروف الراهنة ولاشك مثل الأحجار الكريمة النادرة ، لكن أين هي الأحجار الكريمة؟ أهي وهم أم حقيقة ؟ اسألوا الخبراء ؟ فعندهم الجواب !