للإسلام وظيفة اجتماعية أساسية في حياة الإنسان، وهو منهج كامل ومتكامل يسعى إلى تنظيم علاقات الناس ضمن تطور متميز، وقد ارتبطت حياة الإنسان منذ نشأتها الأولى بالنظام الديني الذي ظل يوجهها ويرسم أهدافها ويقوم انحرافاتها، وكثيرا ما تعرض الدين للتحريف عبر العصور البشرية، فتتابعت الرسالات وبعثات الرسل لتصحيح الانحراف العقدي وإتمام الشرائع إلى أن ختمت هذه الرسالات ببعثة النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فأكملت الدين وجاءت للعالمين كافة صالحة لكل زمان ومكان. وقد حققت هذه الرسالة الإسلامية في فترات التزام الناس بها حياة إنسانية ملؤها الاطمئنان النفسي والأمن الاجتماعي والسلام العالمي. والباحث في الإسلام يجد كيف قدم القرآن الكريم والأحاديث النبوية واجتهادات الفقهاء وأئمة المسلمين وذوو العلم والبصيرة للبشرية كلها التدابير الناجعة لوقاية المجتمع من الأزمات والآفات الاجتماعية، فالمقصد العام للشارع الإلهي من سن الأحكام كما يقول الشاطبي في الموافقات هو تحقيق مصالح الناس بكفالة ضرورياتهم وتوفير حاجياتهم وتحسينياتهم (1) وخلاصة هذا أن الدين الإسلامي يهدف في رسالته السماوية إلى أن يطبع نفوس أتباعه بطابع واحد، ليكونوا جميعهم على قلب رجل واحد يأخذ قويهم بيد ضعيفهم، ويعني غنيهم بإصلاح أمر فقيرهم، إنطلاقا من الهدف النبيل الذي سنه الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يقول: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.. «كذلك حرصت تعاليم الإسلام في اهتمام بالغ على تنمية العلاقات الإنسانية وتقوية الروابط الاجتماعية، ومن بين هذه الروابط: الوقف. الوقف ودوره الحضاري: الوقف لغة يدل على الحبس والمنع، وهو مصدر أريد به اسم المفعول، يقال: هذا العقار وقف أي موقوف، ومن ثم جمع على أوقاف ولا يقال أوقفته، لأنه لغة رديئة (2) واصطلاحا فقد عرف بعدة تعاريف من أهمها في نطاق المذهب المالكي ما عرفه به الإمام ابن عرفة حيث قال: «الوقف إعطاء منفعة شيء مدة وجوده، لازما بقاؤه في ملك معطيه، ولو تقديرا » (3) ويستفاد من هذا الوجوب إبقاء ملكية الموقوف في ملكية واقفه ويرى الإمام أحمد بن حنبل ومن نحا نحوه أن ملكية الموقوف تنتقل من الواقف إلى الموقوف عليهم. أما مذهب الإمامين الشافعي وأبي حنيفة فهو أن ملكية الموقوف، تنتقل من الواقف لا إلى مالك من العباد، ولكن إلى أجل المالكين وهو اللّه سبحانه وتعالى (4). لقد كان الوقف وهو إحدى المؤسسات الاقتصادية في الإسلام من أهم المؤسسات التي كان لها دورها الفعال في عملية التطوير والنمو الاقتصادي في مختلف عصور الإسلام والمعاهد والمدارس والمكتبات والخدمات والملاجيء ودور الأيتام والزوايا والرباطات والمستشفيات والطرق والقناطر والآبار.. وكان ولا يزال هو المصدر الرئيسي والأول في بناء المساجد في كل بقعة من العالم الإسلامي. وقد جاء في صحيحي الإمامين البخاري ومسلم عن أنس بن مالك، رضي اللّه عنه أنه قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب قال أنس: فلما نزلت الآية:« لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون..» قام أبو طلحة إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول اللّه، إن اللّه تبارك وتعالى يقول: «لن تنالوا البر..» وإن أحب أموالي إلي بير حاء، وإنها صدقة للّه، أرجو برها وذخرها عند اللّه فضعها يا رسول اللّه حيث أراك اللّه. قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: بخ (كلمة إعجاب ورضا بالشيء ومدح به) ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين. فقال أبو طلحة أفعل يارسول اللّه، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه (5) وقد تكررت الآيات في القرآن الكريم التي تحث على الإنفاق وخاصة التطوعي منه منها: سورة البقرة (الآيات: 3 - 215 - 219 - 254 - 261 - 262 - 265 - 267 - 274) سورة آل عمران (الآيات : 117 - 134) سورة النساء (الآيات: 34 - 38) سورة الأنفال (الآية: 3) سورة التوبة (الآية: 53) سورة الحج (الآية 35) سورة القصص (الآية 54) سورة السجدة (الآية 163) سورة الشورى (الآية 42) سورة الفرقان (الآية: 67) سورة الحديد (الآية: 10). أما في السنة النبوية فمنها حديث وقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد قال الحافظ ابن حجر في هذا الحديث: «وحديث عمر هذا أصل في مشروعية الوقف. (6) والحديث عن ابن عمر فيما رواه الإمام البخاري وغيره: أن عمر أصاب أرضا من أرض خيبر، فقال يا رسول الله، أصبت ما لا بخيبر لم أصب قط مالا خيرا منه، فما تأمرني؟ فقال: «إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، غير أنه لا يباع أصلها، ولا يبتاع ولا يوهب، ولا يورث». قال ابن عمر: فتصدق بها عمر على ألا تباع ولا توهب، ولا تورث، في الفقراء، وذوي القربى، والرقاب، والضيف، وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم غير متمول فيه» (7) فكتب عمر وثيقة وقفه وهي أقدم الوثائق في تاريخ الإسلام حسب العديد من الفقهاء والعلماء. إضافة إلى ذلك وقف عثمان بن عفان رضي الله عنه لبئر رومة. فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي عبد الرحمن أن عثمان حين حوصر أشرف وقال: أنشدكم ولا أنشد إلا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حفر رومة فله الجنة فحفرتها» (8) يضاف إلى هذا اجتهادات العلماء والفقهاء وفتاواهم في هذا المضمار عبر العصور الإسلامية المختلفة وشكلت بذلك ذخيرة فقهية وتشريعية وقانونية مهمة للباحثين والمهتمين في هذا المجال. وخصصت الدول الإسلامية إدارة خاصة للتسيير والسهر على أوقاف المسلمين سميت بنظارة الأحباس «وكانت قوامة الناظر على الوقف هي أول صيغة إدارية عرفتها الأوقاف، وقد ظل الناظر أو المتولي طوال العهود التي تعاقبت على مسيرة الوقف يمارس ما اختط له الشرع من سلطات إدارية لتحقيق مصالح الوقف وحفظه وتثميره». (9). «وإذا كانت صناعة الحضارة الإسلامية مثلت ملحمة عظمى ونهضت بها الأمة على امتداد قرون عدة منذ أن خرجت هذه الأمة من بين دفتي القرآن الكريم، صانع عقيدتها وشريعتها ومؤلف وحدتها وموضوع علوم شريعتها ومصدر الصبغة الإلهية لعلوم حضارتها وناسج المعايير التي عرضت عليها مواريث الأمم التي سبقتها وعاصرتها... إذا كان هذا هو شأن (الأمة) في صناعة هذه الحضارة فإن (الوقف) كان المؤسسة الأم التي مولت صناعة أمتنا لهذه الحضارة الإسلامية» (10) الوقف والتنمية البشرية: إن الوقف الإسلامي منذ كان وهو يسعى دائما لعمل الخير، وتنمية المجتمع، وإشاعة روح السخاء والبذل الذي يحرك أبناء الأمة الوسط، ويقود خطاهم إلى ساحات التعايش والتآزر والتكافل، ويدلهم على منابع المعروف والإحسان، ويبعث في نفوسهم معاني الإسلام تمهيدا للمستقبل المشرق الواعد، وقد شمل الكثير من الأنشطة التنموية: الاقتصادية والاجتماعية والصناعية والتعليمية، والصحية، والبحثية، وذلك من أجل تطوير وخدمة الفرد والمجتمع والعناية به صحيا وعلميا، ووعيه بقيمة التكافل الاجتماعي، والسعي إلى تحقيقه بشتى الوسائل والأساليب الممكنة، ويبين الباحث المغربي الدكتور محمد الحبيب التجكاني العديد من الأوقاف عرفها المغرب وهي: أوقاف افتكاك الأسرى، وأوقاف الطعام، وأوقاف تقديم الملابس والأغطية لمن يحتاجونها، وأوقاف مساعدة المصابين والمنقطعين والغرباء والفقراء الذين ليس لهم أقارب يقومون بأمرهم (11). كما ساهمت الأموال الوقفية في تنمية التعليم والدراسة سواء داخل المساجد أوفي المعاهد والمدارس المنفصلة بدءاً بالتعليم الأوّلي إلى نهاية الدراسات العليا. «وقد كفل الوقف للعديد من العلماء، دعاة الإصلاح، ورواد التجديد، وحراس الضمير، حتى يؤدوا رسالتهم على الوجه المطلوب في عزة وشهامة، واعتزاز بالدعوة الإسلامية الصحيحة التي يضطلعون بتحمل أعبائها. فيصدعون بكلمة الحق، ويرفعون صوت النصح بقوة ووضوح، وصلابة وشجاعة بالتي هي أرفق وأدعى للقبول... » (12). كما أوقف المسلمون العديد من الوقوف على المكتبات العلمية وفتحوا أبوابها في وجه طلاب العلم والمعرفة، وجمعوا الكتب من أطراف الدنيا لجعلها رهن إشارتهم. وقد سجل التاريخ بمداد من الفخر والاعتزاز ما قام به علي بن يحيى المنجم في العصر العباسي حيث أسس أول مكتبة عامة على نفقته في بغداد وفتح أبوابها للراغبين في تلقي العلم، وعين فيها موظفين، كانوا يتقاضون رواتبهم من ماله الخاص لمساعدة الوافدين عليها، ولم يكتف بهذا بل بنى أجنحة في قصر له بضواحي بغداد لإقامة الراغبين في التعلم ومطالعة الكتب، فكانوا يأكلون على نفقته أيضا، فكأنما أراد أن يجعل من مكتبته جامعة علمية. (13) وكان فضله في هذا المضمار يفوق كل فضل، لأنه كان فردا واحدا وضع على عاتقه هذا العبء الثقيل متطوعا. ونفس الشيء قام به في المغرب، أبو الحسن الشاري، أحد أبناء مدينة سبتة (توفي سنة 649 ه) بحيث أسس أول مدرسة على النمط المشرقي لما رأى كثرة من يفد عليه من الطلبة لحضور دروسه، وكانت الأولى من نوعها في المغرب الأقصى جعلها لإيواء الطلبة من جهة، وللدراسة المنظمة من جهة أخرى، مع توقيف خزانة كتب عليها وهي أول خزانة وقفت في المغرب على أهل العلم ليجد بها الطلاب كل ما يساعدهم على الاجتهاد والإقبال بجد ونشاط على متابعة دروسهم، ورغم ما لاقاه هذا العالم الجليل من اضطهاد أدّى إلى نفيه عن بلده لأسباب ترجع لحسد أعدائه، فإن ذلك لم يمنع مشروعه من النجاح. (14) ويقرر الفقهاء أن الوقف على التعليم كان يستفيد منه الصغير والكبير والغني والفقير، بحيث لا يحرم منه أحد من الرجال والنساء بل «وحتى المماليك والعبيد والإماء من النساء والأيتام واللقطاء، وانتشرت الثقافة بين البوابين والفراشين لأن شرط الوقفيات سهلت لهم ذلك. ولذا نجد أن البعض في هذه الطبقات قد بلغ الذروة في العلم، وأصبح من كبار العلماء كل ذلك بسبب أموال الوقف التي كانت تسمح لهم بالعمل والدراسة فيها، وأصبح هؤلاء يمنحون بأنفسهم الشهادات والإجازات لغيرهم مثل سعد الجبريلي وكذا ابن الدبيثي وأحمد بن أبي بكر بن علي الذي كتب تاريخ ابن كثير وأضاف إليه»» (15). وحتى المخطوطات العربية حظيت بنصيبها من الوقف فكان هناك قبل عصر الطباعة المدرسة النظامية في بغداد، والأزهر بالقاهرة وبعض مدارس مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة وغيرها من المنشآت الدينية والتعليمية في الحواضر الإسلامية الشهيرة). ومن أهم المظاهر الجامعية التي التزمت بها جامعة القرويين في العصرين: الوسيط والحديث وجود كراسي لتدريس علوم مختلفة، وقد أوقفت هذه الكراسي لتدريس أمهات المصنفات في مختلف العلوم وهو تقليد علمي وجد في الشرق بصفة خاصة وجامعي الأندلس والشرفاء بصفة عامة إلى جانب عشرات المساجد في مدينة فاس وغيرها من مدن المغرب كمراكش وسلا وتطوان ومكناس. ولفظ (كرسي) هو الاصطلاح الذي ما زال مستعملا حتى الآن في مختلف جامعات العالم. ويذكر المرحوم محمد المنوني: أن ولاية كرسي التدريس بالقرويين تعتبر منصبا ساميا، ولهذا كانت لا تصدر إلا عن السلطان أو ولي عهده خاصة. كما كان لهذه الكراسي أوقاف خاصة صادرة عن السلاطين أو الأفراد، وتوجد في حوالات القرويين عدة لوائح فيها أوقاف كراسي التدريس بجامع القرويين وغيره، وقد تعاقب على هذه الكراسي علماء كبار كالونشريسي المتوفى بفاس سنة 709 ه وأبي الحسن الصغير المتوفى بفاس سنة 719 ه، وابن غازي وأبي العباس المنجور وأبي زكرياء السراج الحميري النفزي، وأبي عبد الله التاودي بن سودة وغيرهم . (16) لقد تبارى الواقفون في كثير من الفترات التاريخية وتراكمت وقوف لا عداد لها في بعض الأقطار الإسلامية، استثمرت في الإعداد والمحافظة والتجهيز والتأطير لأماكن العبادة، والإسهام في الأعمال الخيرية والاجتماعية وإحياء التراث، وحماية الأصالة والمكاسب الوقفية والحضارية، وتوسيع الطاقة الاستيعابية للمؤسسات الدينية، وتحصين المنشآت والأماكن المقدسة. وعلى العموم فإن الدارس لتاريخ الحضارة الإسلامية سيبهره ما أداه الوقف من جهد كبير في ازدهار هذه الحضارة. «لأنه كان مصدرا لحيوية المجتمع وفاعليته، وعاملا رئيسيا في المحافظة على منهج الإسلام وغاياته في تحقيق التكافل الاجتماعي، وتزكية المشاعر الإنسانية، يغذي الحياة الاجتماعية والاقتصادية بمنافع مستمرة ومتجددة تنتقل من جيل إلى آخر» (17). الهوامش 1) الجزء الثاني: ص: 37 38 2) الوقف في الشريعة والقانون/زهدي يكن/ص: 7 3) هو محمد بن عرفة الفقيه التونسي المالكي، توفي سنة 803 ه. 4) أنظر كتاب (دور الوقف في الحياة الثقافية بالمغرب في عهد الدولة العلوية) الدكتور سعيد بوركبة / الجزء الأول/ص: 21 و 22. 5) البخاري/صحيح البخاري الجزء الثاني/ص: 530 / كتاب الزكاة/ باب الزكاة على الأقارب. 6) فتح الباري / الجزء الخامس/ ص : 402 7) صحيح البخاري (الجزء الثالث/ص: 70. 8) الجزء الثالث/ص: 198 (كتاب الوصايا. باب إذا وقف أرضا أو بئرا). 9) انظر مجلة (حوليات الجامعة الإسلامية بالنيجر / عدد: 6) 2000 م/ص: 47 و 48 (نظام الوقف في الإسلام) عياشي فداد. 10) أنظر جريدة (الحياة) عدد: 3/6/1993 م/ص: 19. أنظر دور الأوقاف في صناعة الحضارة الإسلامية % د. محمد عمارة. 11) الإحسان الإلزامي في الإسلام وتطبيقاته في المغرب/ص: 556 558 12) أنظر مجلة دعوة الحق/ عدد: 230 / 1983 (الوقف في الفكر الإسلامي) / محمد بن عبد العزيز بنعبد الله/ص: 119. 13) أنظر دراستنا عن المكتبات ودورها في الحفاظ على التراث / مجلة الثقافة العربية/عدد: 4/ السنة 5 1978 ص: 58 62. 14) أنظر جريدة المدينةالمنورة / عدد: 8 شعبان 1403 ه ص: 8 (الأوقاف الإسلامية وأثرها في تنمية العلوم والفنون والآداب) د. عبد الملك السيد. 16) أنظر دراستنا عن جامعة القرويين/مجلة أحوال المعرفة/عدد: 42 فبراير 2006 م. 17) انظر جريدة الشرق الأوسط / عدد: 16/12/1997 ص: 10 (الأوقاف .. ضرورة تطويرها..).