في الجديدة، تتوسد الذاكرة موج البحر. ولا تغيب الشمس إلاّ في المخيلة. وحدها المدينة تحكي حاناتها، لا يتعب الكأس من حكاياه، ولا تغرق زبدته المترنحة، المنعشة، في الظلام. هي المدينة بعتماتها المتجددة. تحكي زمن البرتغال، ولا تكتب زمن قصر الأندلس. في المقهى المقابل للمسرح، تزورنا الحكايات، أحاول عبثا تقشيرها كي نبتلع رطوبة الزمن، لكن حناجرنا تلفظ الزمن وتترك حكاياه تسوس الأضراس، وتنقي رائحة الحناجر. من أين تبدأ الجديدة ؟ من اسمها القديم أم من فساد العمارة الجديدة ؟ أم من رأسمال حوّل المدينة إلى ضياع حكاياها ؟ المدينة لا توقظ الكتابة إلا حين تنام. تنام لوحدها، تتكىء على صباحاتها السعيدة، تمشط شعرها بخليط من الحناء والقرنفل والياسمين تغطي وجهها لإغراء البحر، لإغراء كأس نبيذ ينتقل لوحده بين الحانات، والدروب المعتمة. في الجهة الأخرى من الأندلس، رسام يمحو سقراط بالألوان ، ينتقل من الحوار السقراطي إلى إيقاظ ديونيزوس من المرسى ، بل إنه يستعير متعة إيروس لخلخلة الإطار وهدهدة رطوبة المدينة. لا شيء يغري الرسم، لا أحد يتمتع بالإيروس غير موج يداعب السمك ، ولا يقهره. هكذا يخرج حنظلة من كواليس المسرح البلدي ليفضح العلاقة التي تربط الموج بالسمك أو بالأحرى سقراط بالأيروس.أو دعوني أنا سارق الحكاية ، تقديمها ? بالمجان ? لكؤوس متعبة ، لكأس حياتي الشارد ، لنبيذ تلفظه الحموضة، أو بالأحرى لحكاية تحتسي كأسا فارغة ولا ترتوي ، كان حنظلة طفلا يخيط الرطوبة بالتبوّل وينتقل بين الحيطان باحثا عما يسكره ، و عمّا يبعده من الموج،عما يقطع حبل السرّة ، ولا يجد غير منديل يلف رائحة ما، يشمّه بعمق حتى النسيان ، أي حين تبتعد العينان من وجهه . إذ ذاك يتوقف عند صور الرسام ليضيف إليها خليطا آخر. تقول الحكاية إن حنظلة حين يرى عراءه في اللوحة يستمني . ينام على منيّه قليلا . ليجد نفسه في الصباح بقسم الشرطة . يستيقظ الرسام من توقيعه ، يلتحق بقسم الشرطة ، يسأل البواب عن مكتب الأحداث، يدقّ الباب، دقة ، دقتان . ليجد نفسه أمام شرطي تفوح منه رائحة النوم والجنس. سأله الفنان عن حنظلة. ضحك الشرطي عن الاسم حتى كاد يخرج طاقم أسنانه ... بحث الشرطي في الأرشيف عن حنظلة فلم يجد له اثرا. صحح الرسام الاسم مدليا ببعض الخصائص العامة لهذا الولد الذي يسمى حنظلة لم يفهم الشرطي أي شيء. أراد طرده فلم يستطيع. أخرج الرسام ورقة بيضاء من معطفه الكاكي، أخرج قلما جافا رسم صورة حنظلة. لم يسأل الشرطي سبب علاقة الرسّام بهذا الولد ولكنه أدخله الزنزانة. ربما قدم الرسّام للشرطي هدية ما . تسمى في العرف المغربي رشوة، خرج حنظلة دون أن ينبس ببنت شفة. غسل عرقه بماء مالح دون أن يرتعش ببرودة البحر. دخل الرسّام حانته بينما حنظلة يتبعه بظل يشي بكل الاحتمالات. جلس حنظلة أمام الرسام وهو يأكل بنهم السردين المشوي وكأس شاي بينما الرسام يخطط على أوراقه شيئا من حنظلة . لسنوات ظلّ الرسام أسير حنظلة كأنه يرغب في تبنّيه ، كأنه يبحث عن أبوة تهرب في البحر. لتلتصق بشموس القلعة البرتغالية أو بغروب قصر الأندلس. حين كنت بالجديدة ، لم أستطع رتق الأمكنة بكؤوس النبيذ، ولا حتى قراءة رسومات الرسام بظل حنظلة ، ولكن حين التقيت بسعيد الدكّالي حكيت له الحكاية دون أن يجيب. كما لو كان يسكن بالصمت ، أو كما لو كان الصمت رديفا أو قرينا له...، وماذا بعد؟ قال سعيد الدكالي وهو يحمل حقيبته ليسقط في كأس فارغة، أو بالأحرى في كأس تخفي الدمع إذا صمت مثلما يخفي الصمت سعيد الدكالي . بيننا الآن مسافة . كان الأطفال يلعبون في بطون أمهاتهم بينما حنظلة يبحث عن توقيع يوقعه في البحر . لأسبح أنا راوي الحكاية في بحر الحكايا ،لأضيف لنقط الحذف المعنى . لأقل إن حنظلة أشعل النار في مرسم الرسام بعد أن قام بتخريب اللوحات مثلما أحرق صوره المدفونة في تلك الرسومات وبالجملة فإنه أحرق الحالة المدنية التي تعطي لوجوده استعارة العدم. خرج حنظلة من احتراقاته، من المدينة المحرّقة بالعطش والملح . اتجه إلى بوابة الأندلس، كي يقيم الصلاة على البحر، البحر الأبيض المتوسط . المسافة قصيرة بين طنجة واسبانيا وحنظلة كما السردين لا يعيش إلا في الماء . نجح في العبور إلى الضفة الأخرى ... نسي الرسام حنظلة ، بعد أن بحث عنه في أرشيف البوليس و مستودع الموتى و عند رجال المطافئ و أرشيف «بويا عمر»... نشرصورته في الجريدة. لكن دون جدوى . يقول سعيد إن الحكاية تصلح لشريط سينمائي ، لكن حين قرأ» الذاكرة الموشومة» وجد نفسه موشوما بروائح مالحة. الصورة لم تكتمل، والحكاية فقدت بوصلة الأندلس. والرسام تخلى عن رسوماته وسكن البحر . البحر هو الذي سكنه . سعيد الدكالي لم يحك قصة حب دكالية وإن كان قد أشار إلى ذلك في إحدى الحانات التي تشبه إصطبلا . قال سأحكي الحكاية ونام على دفتر الذكريات . رأى المسرح وأصوات الغناء الثوري أو بالكاد الملتزم. تدور بين الكراسي والقلعة البرتغالية.. أو لم لا نقول إن تلك الأغاني كانت تبحث عن خيط وإبرة لتخيط المدينة القديمة بالمرسى أو لترسم مركبا تسافر فيه إلى دار البريهي، أو إلى مكان آخر من أمكنة العاصمة. يقول كنا نحلم كما النوارس حين توزع رسائل العشاق. كما البحر حين يلفظ موتاه، كما دوخة حنظلة حين تتهرب منه عيناه، أو كما أنا حين تهجرني الحروف ولا أجد من أستند عليه غير الحكايا. أنا لم أقل لصباح السعيد إن الأزقة ملتوية، وإن الموتى يحتلون البرلمان، وإن الجرائد تحتفل بالجريمة والشماتة، وإن الحكومة تبني لنا قبورا لنموت فيها واقفين، مبتسمين... لا أدري لماذا لم أقل لها ذلك، هل لأننا أتلفنا كل شيء ولم نعد نجيد غير حساب الخسارات. لم أقل لها لماذا كان المغنّي يغني، وكنا نردّد الغناء بحناجرنا العطشى، نعيد الغناء بأعلى صوتنا كأننا نريد أن نتقيأ صدأ المدن التي أكلها المخزن... قد يكون حنظلة الآن، في مدريد . يشجع نادي برشلونة، أو قد يكون في أزمور يشجع الدفاع الحسني الجديدي ما الفرق ؟ أن تتصوره هناك أو هنا ؟ فالبحر مالح، والحناجر التي كانت تغني أصيبت بربو حاد. فلا تخرج الكلمات إلا بصعوبة، كما الحزب، كما الجريدة، كما الأصدقاء الذين باعونا بكؤوس شامبانيا وتركوا كأس حياتي لحنظلة، هذا الشاهد الذي نسيته. هذا النسيان الذي تذكرته كي يعيد للوهم سمفونيته المفقودة . لأننا نحكي لنضيف للموتى بخور المرحلة. سعيد صامت مثل قلعة البرتغال تماما. هل سيعيد كتابة الذاكرة الموشومة ؟ لا أدري ولكن لم لا تورّطه الكأس الأخيرة في الحكي . في حكاية صمته، دون أن يرى المراكب وهي تهاجر نحو المعلوم أو على الأقل لنقول للغناء الأخير: الوداع، ونقول للمهاجرين السريين في الايديولوجيا : أنعمتم فجرا. لنا المساءات و الليالي ، لنا الكأس و قصائد رامبو اللعين ، لنا حكايا حنظلة، والسردين المشوي قبالة المرسى. لنا الضوء المشتت في البحر. لنا الحياة والكلمات. لنا السنابل وبيت يتسع لجلستنا القادمة، في مقهى الملكي، في ذلك الركن الذي كنا نناقش فيه جبهة الأمل وأشياء أخرى... طوى حنظلة حكايته، ودخل عوالم التشرد، أعاد لحبل السرّة حبلا آخر في الهامش ونام على منيّه أو قيئه. ترك الرسام المدينة، رمى ذاكرته في البحر لينام قليلا... شتّت سعيد الدكالي الذاكرة الموشومة في البيضاء، ولم يستطع جمعها في الذكريات بل خرج من» الذاكرة الموشومة» ليقيس صمته بصمت البحر. سقط الراوي في حرف النّون دون أن يغلقه، وبدأ يحكي كأنه يريد ستر الحكاية... المدينة تأكل نوارسها، لتطير المدينة مع طيران أحوازها... هامش : هل تريد السباحة؟ - نعم - من أي سجن تعلمت السباحة. البحر مالح والسجن مالح والحروف أشبه بعظام مجهولة المصدر... سطات : شتنبر2010