سيحتفل المسلمون، في مشارق الأرض ومغاربها، بعيد الفطر السعيد، وقد عاشوا بأرواحهم وقلوبهم لحظات قدسية في شهر الصيام والقيام. ولاشك أنّ كل مؤمن يتوق إلى أن يُقبل صيامه ويرفع عمله، لكن لا سبيل إلى ذلك ما لم يخرج زكاة الفطر التي حدد قيمتها العلماء هذا العام في اثني عشر درهما ونصف درهم، (50،12 درهماً) إلى خمسة عشر درهماً (15 درهما) عن كل فرد قال الله تعالى: »وما تنفقوا من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين«. لكن لمن تعطى هذه الزكاة؟ ومتى تُخرج؟ وما حكم من قدّمها أو أخرها عن وقتها؟ ماهي مقاصدها الإنسانية والاجتماعية؟ وهل تقتضي مصلحة الفقراء إخراجها عينا أم نقداً؟ وماهو أثرها في تقوية الروابط وتوفير الأمن الاجتماعي؟ لقد شرعت زكاة الفطر طهرةً للصائمين من الرفث والفحش في الكلام، وإحساناً للمساكين وإدخالاً للسرور عليهم حتى لا تكون في المجتمع فئة محزونة في يومٍ يفرح فيه الجميع. ماهي أقوال علمائنا الأجلاء في ما يتعلق بهذه الزكاة ماضياً وحاضراً؟ قال العلامة ابنُ قيم الجوزية عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في زكاة الفطر: «فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلم، وعلى مَن يمُونُه من صغير وكبير، ذَكَرٍ وأنثى، حُرٍّ وعَبدٍ، صاعاً من تَمْرٍ، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من أقِطٍ، أو صاعاً من زبيب. وروي عنه: أو صاعاً من دقيق، وروي عنه: نصف صاع من بُرٍّ. والمعروف: أنّ عمر بن الخطاب جعل نصف صاع من برٍّ مكان الصّاع من هذه الأشياء. ذكره أبو داوود. وفي «الصحيحين» أنّ معاوية هو الذي قوَّمَ ذلك، وفيه عن النبي صلى الله عليه وسلم آثار مرسلة، ومسندة، يُقوّي بعضها بعضاً. فمنها: حديث عبد الله بن ثعلبة أو ثعلبة بن عبد الله بن أبي صعير عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صاعٌ من بُرّ أو قمح على كل اثنين» رواه الإمام أحمد وأبو داود. وقال عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث منادياً في فجاج مكّة: «ألا إن صدقَةُ الفِطر واجبةٌ على كل مسلم، ذكَرٍ أو أنثى، حُرٍّ أو عبدٍ، صغير أو كبير، مُدّانِ من قمحٍ أو سِواهُ صاعاً من طعام». قال الترمذي: حديث حسن غريب. وروى الدارقطني من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَر عَمرو بن حزم في زكاة الفطر بنصف صاعٍ من حِنطة. وفيه سليمان بن موسى، وثّقه بعضهم وتكلم فيه بعضهم. قال الحسن البصري: خطب ابن عباس في آخر رمضان على منبر البصرة، فقال: أخرجوا صدقة صومِكم، فكأن النّاس لم يعلموا. فقال: مَن هَاهُنا من أهل المدينة؟ قوموا إلى إخوانكم فعلّموهم فإنهم لا يعلمون، فرضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الصّدقة صاعاً من تَمْرٍ، أو شعير، أو نِصف صاعٍ من قمح على كل حُرٍّ أو مملوك، ذكر أو أنثى، صغير أو كبير، فلما قدِم عليٌّ رضي الله عنه رأى رُخْص السِّعْر قال: قد أوْسَعَ الله عليكم،. فلو جعلتُموه صاعاً من كل شيء» رواه أبو داود وهذا لفظُه، والنسائي وعتده: فقال عليّ: أما إذا أوسع الله عليكُم، فأوسعوا، اجعلوها صاعاً من بُر وغيره. وكان شيخنا - رحمه الله- [أي الإمام ابن تيمية] يُقوّي هذا المذهب ويقول: هو قياس قول أحمد في الكفّارات أن الواجب فيها من البرِّ نصف الواجب من غيره. وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إخراج هذه الصدقة قبل صلاة العيد، وفي «السنن» عنه: أنه قال: «مَن أدّاها قبل الصّلاة، فهي زكاةٌ مقبولة، ومَنْ أدّاها بعد الصّلاة فهي صدقة من الصدقات». وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر أن تُؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة. ومقتضى هذين الحديثين: أنه لا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد، وأنها تفوتُ بالفراغ من الصلاة، وهذا هو الصواب، فإنه لا معارض لهذين الحديثين ولا ناسخ، ولا إجماع يدفع القول بهما، وكان شيخنا يقوّي ذلك وينصره، ونظير ترتيب الأضحية على صلة الإمام، لا على وقتها، وأن من ذبح قبل صلاة الإمام، لم تكن ذبيحته أضحية بل شاة لحم. وهذا أيضا هو الصواب في المسألة الأخرى، وهذا هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموضعين. وكان من هديه صلى الله عليه وسلم تخصيص المساكين بهذه الصدقة، ولم يكن يقسمها على الأصناف الثمانية قبضةً قبضةً، ولا أمر بذلك، ولا فعله أحدٌ من أصحابه، ولا من بعدهم، بل أحد القولين عندنا: أنه لا يجوز إخراجها إلا على المساكين خاصّة، وهذا القول أرجح من القول بوجوب قسمتها على الأصناف الثمانية». [زاد المعاد في هدي خير العباد - الجزء الأول - المكتبة القيّمة ص 136 - 137].