إن معركة الأمة العربية مع أعدائها التاريخيين لم تتوقف يوماً كما قال فوزي البشتي في تمهيده لكتابه »التطبيع اغتيال ذاكرة« الصادر عن شعبة التثقيف والتعبئة والإعلام بطرابلس في ليبيا بل تواصلت على مدى التاريخ، فقد كانت الأمة العربية مستهدفة دائماً، ولقد حاول الاستعمار مراراً محوها واغتيال إرادتها ووأد عنفوانها الحضاري والإنساني، وزعزعة صمودها وتحديها. وفي أتون هذه المعركة الطويلة الشرسة، مرت الأمة العربية بمحن لعلها أشد وطأة من محنها الراهنة... كلما تخيل أعداؤها أنهم وصلوا إلى الهدف وأدركوا الثأر، بسيطرتهم على الأرض أحيانا، وهيمنتهم على الاقتصاد والمجتمع والسياسة أحياناً أخرى، وتركيعهم لبعض الأنظمة العربية في بعض الأحايين. ولكن الأمر الذي ظل بعيدا عن منالهم في كل حين هو السيطرة على روح الأمة وضميرها وإرادتها. لقد ظلت أصالتها حاضرة وقوية ومتحدّية وصامدة في مواجهة أشد المحن التاريخية وأكثرها بشاعة... بل في لحظات تاريخية قائمة هيمن فيها اليأس وبدا كل شيء مكللا بالهزيمة واطمأن العدو إلى أن مخططاته وبرامجه قد باتت حقيقة واقعة وأن المؤامرة قد استكملت حلقاتها وحققت نجاحها النهائي حين ارتفعت رايات بيضاء مستسلمة في بقاع كثيرة على خارطة الوطن العربي الكبير وخيل للعدو أن المعركة قد انتهت وفق ما أراده وخطط له وعمل من أجله أحقاباً طويلة من الزمن وعلى مدى التاريخ. وفي غمرة هذا الواقع الذي يبدو مشبعا باليأس تستيقظ روح الأمة العربية ويتوثب ضميرها وتحقق انتصارها الذي يسقط كل أبعاد المؤامرة ضدها. يتحدث المؤلف عن التطبيع بوصفه اغتيالا للذاكرة، حيث صار بعض العرب أبعد ما يكونون عن التوحد في الزمان وفي المكان، يجرون إلى جزرهم المغلقة، ويتهافتون كل على حدة على تطبيع علاقاتنا مع العدو التاريخي لأمتنا ويتسابقون على الانبطاح أمام قطار الموت الصهيوني الأمريكي الذي مافتىء يتهدد أمتنا.. ومازالت نواقيس الخطر تقرع، فهل يمكن أن تحدث المعجزة ونتبين أنّ أوهام التطبيع مع عدوّ الأمة العربية التاريخي وأحلام السلام الكاذب والانفراد بقرار الاستسلام والنكوص والهزيمة في غيبة الجماهير العربية إن هي إلاّ كوابيس لابد أن تزول أمام التحولات العميقة، وأمام غطرسة الهيمنة الصهيونية والأمريكية المتصاعدة وأمام مخططات التهجير والتوطين والقمع والتوسع للمنطقة، وأمام انفراد الرأسمالية الغربية وحلفائها بالهيمنة والغطرسة والتسلط والعدوان وفرض طغيانها وتحوّل الأممالمتحدة إلى مجرد أداة لتمرير السياسة الأمريكية وفرضها. فهل يمكن أن نتنبّه إلى كل هذه الكوابيس البشعة التي تستهدفنا وتتهددنا وتعمل على محونا من ذاكرة التاريخ؟ وهل يمكن أن يقودنا كل ذلك إلى الاقتناع بأنه لم يعد ثمة مكان لأزمنة عربية متباينة أو لأمكنة عربية متباعدة أو لكيانات قزمية وشراذم قطرية وخصوصيات إقليمية تجد في الأنظمة العربية من يتبناها ضمن انضوائه في مسار التطبيع والركوع والاستسلام وتنفيذ المخطط المعادي للأمة العربية؟ مؤسسات التطبيع الثقافي وذكر المؤلف بعض المؤسسات الغربية التي تعمل ما في وسعها من أجل التطبيع الثقافي، مستهدفة، رموزاً ثقافية عربية، »والمؤسسة الأكثر خطورة هي المؤسسة النرويجية التي ابتدأت خطواتها من بوابة منظمة التحرير الفلسطينية وعبر جمعية »الهلال الأحمر الفلسطيني« حيث يرأسها الدكتور فتحي عرفات في قبرص. والثابت أن هذه المؤسسة كانت أول لاعبي اتفاقية »أوسلو«، وليس صدفة أن يكون (الأريسون) عراب كل هذا النشاط المشبوه حيث يشغل منصب منسق عمليات هيئة الأممالمتحدة في الضفة والقطاع لدى السلطات الفلسطينية وبقبول وترحاب عالميين من السلطات الإسرائيلية وبتفويض كامل من السلطات النرويجية ومؤسسات التطويع والتطبيع« (ص 43). وعندما يتحدث المؤلف عن التطبيع الثقافي يكشف عن جذور الاختراق والهيمنة، ويعني بذلك تلك الصور الغربية التي زرعت في قلب الثقافة العربية وفي عمق وجدان المواطن العربي، وقد أدى وجود هذه العوامل الثقافية الغربية إلى وجود مجموعة من المداخلات الثقافية قادت في نهاية المطاف، ومع استمرار الزمن وتكاتف الجهود الاستعمارية، إلى تثبيت مجموعة من البصمات الفكرية والسلوكية في جسم الثقافة العربية بهدف إحداث ترهّل وسكون وإحباطات متعددة تؤدّي في النهاية إلى هيمنة الجراثيم الغربية وسيطرتها وخلق فجوات وهوات ثقافية تشكل ممرات ومناطق عبور واستقرار داخل نفسية المواطن العربي لكي يجد نفسه في النهاية قابلا لوضعه الجديد، مجرد إنسان مستلب فقد ارتباطه بكل جذوره الحضارية والفكرية حتى يصبح صالحاً لاستخدامه كأداة لتنفيذ المخططات الاستعمارية التي نحتت على مهل وفق ما تمليه مصالح الاستعمار الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وفي نطاق الهيمنة الصهيونية على الوطن العربي، تم تأسيس مجموعة كبيرة من الجمعيات التي تهدف إلى اتباع أخطر أساليب الاختراق الثقافي الصهيوني وهو التطبيع أو الاختراق المؤسس، والذي يقوم على بناء مؤسسات ومراكز أبحاث داخل مصر تهدف إلى اختراق وتشويه الثقافة العربية الإسلامية، وتهدف إلى جمع المعلومات وتحليلها عن أعصاب وعقل هذه الثقافة بهدف التحكم المستقبلي في توجهاتها وبهدف الرضا والقبول ب »التجمع الصهيوني« تدريجيا واندماجه فيما بعد في المجتمع العربي اندماج المسيطر والمتحكم. ويتطور الاهتمام، وتتقدم معه الأنشطة خلال حقبتي »الستينيات والسبعينيات« إلى أن تحدث زيارة السادات للكيان الصهيوني عام 1977 ويليها توقيع اتفاقية »كامب ديفيد« في 1979، والتي دشنت الاهتمام الثقافي الإسرائيلي بمصر. وأعطته أبعاده الرسمية ففي الوثيقة الأولى لمؤتمر »كامب ديفيد« جاء في الديباجة: »إنّ السلام يتعزز بعلاقة السلام وبالتعاون مع الدول التي تتمتع بعلاقات طبيعية«. ويلاحظ أن ذكر العلاقات الطبيعية جاء على نحو كامل مجمل، وفي متن معاهدة السلام الموقعة في 1979 يرد النص التالي: »يتفق الطرفان على أن العلاقات الطبيعية التي ستقوم بينهما ستتضمن الاعتراف الكامل والعلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والثقافية ..« وتتابعت بعد توقيع الاتفاقات أشكال التطبيع العقلي الثقافي. ويشير المؤلف الى ما ينتظر العقل العربي من خلال ما حدث من اختراق عقلي للمجتمع المصري وهنا يلاحظ تداخل الأدوار والوظائف التي قام بها بعض الباحثين من الإسرائيليين والأمريكيين في مصر وبين العديد من الهيئات والمنظمات الصهيونية المعروفة. وتنوعت أيضا عمليات التطبيع الأخرى في المجالات السياحية والاقتصادية والطب النفسي والفن بل الموسيقى. ولعب المركز الأكاديمي الإسرائيلي دورا بارزا في هذه الأنماط من التطبيع من خلال شبكة أبحاثه ورجال المخابرات الذين يحتلون مواقع قيادية بداخله منذ إنشائه عام 1982 وهم »شيمون شامير« و »جبرايل واربورج« و »أشير عوفاديا« و »يوسف جينات«.. هؤلاء طوروا وسائل العمل الثقافي بالتعاون مع المؤسسات الغربية، ولاسيما بعد حرب الخليج الثانية »أي بعد تطبيق ما يسمى بالنظام العالمي الجديد«. وهذه المؤسسات كما أحصاها الدكتور رفعت سيد أحمد في كتابه »اختراق وطن«، هي الجامعة الأمريكية في القاهرة، ومؤسسة رندا الأمريكية، والمركز الثقافي الأمريكي، ومركز البحوث الأمريكية، ومؤسسة فورد فاونديشن، وهيئة المعونة الأمريكية، ومعهد ماساشوستس وفرعه في القاهرة ومعهد ال »أم. أي . تي« في مبنى جامعة القاهرة، مؤسسة روكفلر للأبحاث، ومؤسسة كارنيجي، ومعهد دراسات الشرق الأوسط الأمريكي، ومعهد التربية الدولية المتخصص في منح السلام، ومعهد بروكنجز، والأكاديمية الدولية لبحوث السلام، ومركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة »جورج تاون«. ومشروع ترابط الجامعات المصرية الأمريكية ومقره المجلس الأعلى للجامعات في القاهرة. وتبلغ ميزانيته السنوية 27 مليون دولار تقدمها المخابرات الأمريكية وأجهزتها المعروفة. والجهات السابقة تترابط مهما حسنت نية بعضها لتشكل معا وسائل متعددة لفرض التبعية الثقافية على الوطن العربي بإجمال في ظل ما يسمى بالنظام العالمي الجديد. وبتنسيق وتكامل تامين مع المركز الأكاديمي الإسرائيلي في القاهرة الذي أنشئ في عام 1982. ويقول الدكتور رفعت سيد أحمد في كتابه »اختراق وطن«: »إنه من الأمور الخفية لأنشطة.. المركز الأكاديمي الإسرائيلي في القاهرة والتي مثلت واحدة من أبرز استراتيجياته في مجال التطبيع الثقافي وتهديد عقلية الأمة العربية ومسخها بدءا بالنموذج المصري، استراتيجية »تهويد التاريخ المصري«. برنامج لاقتلاع الأمة هذه الاستراتيجية تقوم على نسب كل الإنجازات الفكرية والسياسية والاجتماعية في مصر المعاصرة إلى الأقلية اليهودية التي قدر لها أن تعيش في مصر آنذاك وأن تعمل ضمن النسيج الحضاري العربي - الإسلامي. وأن تسهم بقدر ضئيل في تلك الإنجازات وأحيانا كان لها إسهام ولكن بالمعنى السلبي المعادي لمصالح مصر. وأكد المؤلف أنّ ثمة محوراً رئيسياً للسياسة الأمريكية في الوطن العربي لتمرير مأزق التطبيع وإعادة ترتيب الخريطة »الجيوسياسية« للوطن العربي بتبني وحماية التيارات الإنعزالية والإقليمية وإتمام صفقات التطبيع والتسوية المنفردة لا على أساس قاعدة تفكيك صيغة مدريد - واشنطن لمباحثات التطبيع الثنائية وحسب وإنما العمل على إنهاء وضرب كافة أشكال العمل الوحدوي واستقلالية القرار السياسي العربي أو التخفيف من حدة هيمنة القوى الخارجية وتفكيك الأواصر التاريخية للأمة العربية والعمل على طمس معالم الوجود القومي العربي. وهو ما شكل باستمرار موقفا أساسيا للولايات المتحدة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وليس بعيدا عن الذاكرة العربية تعاقب المشاريع الأمريكية منذ الخمسينيات من هذا القرن على قاعدة التصدّي للدوافع والطموحات القومية للأمة العربية وحماية الكيان الصهيوني والعمل على زرعه في الوطن العربي وتمكينه من تحقيق برنامجه لاقتلاع الأمة العربية وابتلاعها. وأشار المؤلف في بداية حديثه عن التطبيع وإعادة تدوير الحقبة الاستعمارية، إلى أنّ التفكير والتكتيك الصهيونيين يتغيران ويتبدلان في اتجاه تطوير النظرة الاستعمارية تطويرا يتلاءم مع متغيرات الجغرافيا ومتغيرات المحيط العربي والعالمي. ومن الطبيعي أن يعود ذلك إلى العقلية اليهودية المعاصرة التي تدرك تماما أنها لابد ستواجه بعقلية نقيضة تماما قد تذيبها وقد تنهار أمام قوتها. وباعتبار أن العالم الذي يتغير كل يوم سياسياً واقتصاديا وفكريا واستراتيجيا يضع في المقدمة مصالح شعوبه الخاصة، فإن التفكير الصهيوني الذي حاول منذ عشرات السنين، أن يجد صيغة لتكوين ما يسمى ب »الشعب« يبحث وباستمرار عن البدائل الفكرية الدافعة وليس البدائل الفكرية المتوافقة مع الشعور العالمي بالحاجة إلى الاطمئنان والاستقرار. وأوضح المؤلف كذلك أنّ مهمة الكيان الصهيوني الآن ليست هي التوسع العسكري وإن كان ذلك أحد الاحتمالات القائمة دوما. إنما مهمته الحالية كيف يغزو العرب عقليا؟ ويتبع ذلك الغزو الاقتصادي والعلمي وماشابه ذلك من مهمات غير عسكرية بالمفهوم العام. لقد وُضعَ الشرقيون والعرب، كما يقول إدوار سعيد جنبا إلى جنب مع الشعوب الأخرى التي وصفت بأنها منحطة غير متحضرة وقاصرة عقليا. ومن هذا المنظار - منظار التفاوت والعنصرية والتمركز العرقي - نظر معظم المستشرقين إلى العرب وأمثالهم وقدموا للأجهزة الإمبريالية التي كانوا في طليعتها الرائدة مشاهدات وتوصيفات متحيزة وعدائية للشعوب التي ستصبح ضحايا السيطرة القهرية والهيمنة الأوروبية والأمريكية الشاملة. فالاستشراق كما يستخلص إدوارد سعيد كان في جوهره مذهباً سياسيا مورس إراديا على الشرق.