وقد انحدر صلى الله عليه وسلم من طهارة أصل، وشرف محتد، وأكرم نسل، فكان نخبة بني هاشم، وسلالة قريش، وأشرف العرب، وأعزهم نفرا، من قبل أبيه وأمه، ومن أهل مكة أكرم بلاد الله على عباده كما قال سبحانه في القرآن: «الله أعلم حيث يجعل رسالاته» وعن عطاء في الآية قال: «مازال نبي الله عليه الصلاة والسلام يتقلب في أصلاب الأنبياء حتى ولدته أمه» مصداقا لقوله عليه السلام فيما أخرجه البخاري قال: «بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا، حتى كنت من القرن الذي كنت فيه» وعن أنس رضي الله عنه قال: «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد جاءكم رسول من أنفسكم بفتح الفاء وقال: «أنا أنفسكم نسبا، وصهرا، وحسبا، ليس في آبائي من لدن آدم كلها سفاح». لقد كان من هذه الخصائص والمزايا أن نبوته تقدمت على نفخ الروح في آدم عليه السلام، مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: «إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيئين، وإن آدم لمنجدل في طينته» وهو مصداق ما أخرجه البخاري عن ميسرة قلت: يارسول الله متى كنت نبيا؟ قال: «وآدم بين الروح والجسد». ومن خصائصه تقدم أخذ الميثاق عليه، فقد روى أبو سهل القطان، عن سهل بن صالح قال: «سألت أبا جعفر محمد بن علي كيف صار محمد صلى الله عليه وسلم يتقدم الأنبياء وهو آخر من بعث؟ قال: إن الله لما أخذ من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم، كان محمد صلى الله عليه وسلم أول من قال: بلى، ولذا صار يتقدم الأنبياء وهو آخر من بعث». ومن ذلك أخذ الله الميثاق على النبيئين آدم فمن دونه من الأنبياء أن يؤمنوا به صلى الله عليه وسلم وينصروه إذا بعث فيهم، وفي ذلك يقول تعالى: «وإذ أخذ الله ميثاق النبيئين لما آتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال آقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا: أقررنا قال: فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين» قال شيخ الاسلام تقي الدين السبكي: «في هذه الآية من التنويه بالنبي صلى الله عليه وسلم وعظيم قدره ما لايخفى أنه على تقدير مجيئه في زمانهم يكون مرسلا إليهم، فتكون نبوته ورسالته عامة لجميع الخلق من زمن آدم إلى يوم القيامة، وتكون الأنبياء وأممهم كلهم من أمته وهو مصداق لقوله عليه السلام: «فضلت على الأنبياء بست، أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأرسلت الى الخلق كافة، وختم بي النبيون». مفتاح شخصية الرسول عظمته عظمة النبوة: ومن هنا نتبين أن ما حبا الله به رسوله الأكرم من كمال الصفات والمزايا، وما خلع عليه من الخصائص والكمالات الخلقية والخلقية التي جعلته في أوج الكمال الإنساني، متفردا في تاريخ البشرية كلها كما وصفه الشاعر: كملت محاسنه فلو أهدى السنا للبدر عند تمامه لم يخسف وعلى تفنن واصفيه بوصفه يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف نتبين أن عظمته عليه الصلاة والسلام ليست مستمدة من عصبية أو جاه أو مال، ولا من عظمة الأمة التي ظهر فيها، ولا من سمو حسبه وشرفه، بل من جلال شخصيته، وكمال خلقه، وسعة أفقه، وعظمة سيرته، وأنه المثل الأعلى للإنسان الكامل، وأنه عاش مجاهدا ومات مجاهدا في سبيل الله، وأنه النبي الخاتم المبعوث للعالمين، ورسول الإنسانية كلها الذي أرسله الله على فترة من الرسل ليختم رسالات الله، ولينذر العالمين بعقيدة التوحيد، ورسالة السلام، ودعوة الفطرة التي فطر الله الناس عليها، كما ذهب إلى ذلك الشيخ عبد الحي الكتاني رحمه الله. فقد دعت رسالته الخالدة الى التوحيد المطلق، وقررت مبادئ العدالة والحرية، والمساواة والإخاء بين الناس كافة، وكانت دين البشرية بسمو روحها، وكمال مقاصدها، ونبيل أهدافها، ورفعها من كرامة الإنسان، ودعوتها الى الحب والرحمة، والتعاون وإيقاظ الضمير، والشعور بالمسؤولية ، وتقدير العهود والحرمات، ونشر العلم والعمران والمدنية، وحرب الوثنية والشرك، والضلال والعناد، والرذائل والمنكرات، والأهواء الضالة، والشهوات الجامحة والخرافات الكاذبة، والتقاليد البالية، وجمع الناس تحت لواء واحد من هدى الله، وفي ظل رسالة كاملة هي شريعة الله، ثم لم يمض إلى جوار ربه إلا وقد جمع العرب عليها، ودعا الملوك والأمراء إليها، فأرسل الرسل مبشرين ومنذرين إلى كسرى، وملك البحرين، والحبشة، وحاكم مصر، وهرقل قائد دولة الروم العظمى، وحمل خلفاؤه من بعده أعباء هداية الأمم وتحرير الإنسانية، فوصلت هذه الرسالة إلى أطراف الدنيا، وقامت عليها حضارة مشرقة، ولم تزل عقيدة كثير من الأمم والشعوب، ولن تزال حضارة حية بما فيها من أخلاق وأحكام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وإذا كانت الرسالة الإسلامية هي الرسالة التامة القيمة، المحفوظة الخالدة الكاملة من كل نواحيها، فلا بد أن يكون حاملها والداعي إليها الذي بعثه الله بها على ذلك المستوى بل وأرفع، وفي نفس تلك الرتبة بل وأعلى، وفي تلك المنزلة والدرجة بل وأجل، لأنه هو المتحمل القائم بأعباء هذه الرسالة، ومعلوم أن الحمل الكبير لايحمله إلا من هو أكبر منه. ومن هذه الزاوية اللطيفة، والحيثية الشريفة وندرك أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي جاء بهذا الدين الكامل، لاشك أنه هو إنسان كامل في كل شيء، كامل في خلقه وصورته، فلم ير الرائي قبله ولابعده مثله. فهو الذي تم معناه وصورته ثم اصطفاه حبيبا بارئ النسم