إذا أردنا أن نضع في هذه اللحظة، عنوانا يعكس توقنا الأزلي لفهم مسارات عبد اللطيف اللعبي بكثافتها وحصافتها، وقسوتها العاتية أحيانا، عنوانا يكشف تطلعنا إلى تأبيد حالة التحلق الفكري والإنساني حول ذاكرته وإنجازه الأدبي فلن يكون إلا وسمه ب»حارس الأحلام المنسية»، إنه الكائن الذي طوع حالة العيش بين المعابر والمرافئ والتجارب المتبذلة لتصير سندا للأمل، لنفي الضرورة وتبجيل الحرية، هو الضمير الذي حول الكتابة إلى عمل يومي، تنتفي بتوقفه شهوة الحياة، ليس غريبا إذن أن يستحيل مع مرور الزمن إلى كيان هلامي تلاشت ملامحه الحسية خلف الكلمات والصور، والمبادئ والأسطر الشعرية، والخيالات المنبعثة من عزلة الأقاصي. لم يأخذ اللعبي يوما مجريات العيش لعبا أو كمراقب محايد، يطالعها وهي تتكشف ببطء أمامه عن خيبات متناسلة، بل كان يشحنها بكل توتره وحيويته، بكل قلقه وجسارته، حتى تعطي سرها، لقد امتلك دوما قدرة الابتعاد وخط المسافات مع الأمكنة والشخوص والعلاقات، لم يستسلم لسكينة الثبات والتواؤم، التي تستهوي الكثيرين، وتجعلهم يحذفون كل ما هو حيوي وخصب، فيجرفهم شلال الصمت. لذا كانت جديته غير قابلة للمعابثة، حجابا حريريا شفافا وصعب الاختراق في آن. إنه غير لعبي بتاتا حين يتعلق الأمر بدور الكاتب وواجبه في المقاومة ومنح الأمل. فيجعلك تقرأه على الدوام بولع وانصهار وجدانيين: روائيا ومسرحيا، وقبل كل شيء شاعرا، غير مهادن في إبراز هامشية الصوت الذي مثله، ونموذج الهوية التي آمن بها، هوية الشاعر المنفي عن كل مراتع الانتماء. «شاعر يمر»، «تجاعيد الأسد»، «مجنون الأمل»، «احتضان العالم»، «شجون الدارالبيضاء»، «ذاكرة الجسد»... حلقات من تكوين أدبي ينتظم على إيقاع الإصغاء لثلاثية الذات والذاكرة والآخرين، رؤيا تتناسخ عبر إبدالات وضمائر وتعبيرات لفظية، تحرس الحلم المنسي، ونفس إنساني لا يفقد نسغه الرومانسي، ولا حرقة أسئلته الوجودية، مع حضور -في الخلفية- للهم السياسي، واحتفاء دنيوي مبهج، وكشف تأملي لخبايا الذاكرة والمقبل من الزمن. هكذا يمضي صاحب: «تمارين في التسامح»، في خيال من قرأه وصادقه عن بعد، صوتا لضمير الانتفاء، وخطابا متمردا يتعهد بحدب خطاطات اليافعين، ويخفف من غلواء اندفاعهم الحماسي، لم يرق له يوما ذلك التركيز المستمر على ماضيه النضالي، لم يستسغ أبدا أن يتحول إلى أيقونة. كان كاتبا، لا صانع تمائم. ولم ير في كل ما جرى، بعذاباته وآلامه وأحلامه، بطولة ما، وإنما قدر جيل وزمن في مسار هذا الوطن، وبات يلح أكثر على استبطان الحصيلة التي انتهينا إليها اليوم، وضرورة تحصين المكاسب المنجزة على صعيد الحريات والقيم في الحياة وفي الكتابة. ففي ثنايا الاستعادة التأملية، اكتشاف لقدرة التجاوز، وتثبيت لأحاسيس يتربص بها البعد والغياب، يبدو مدهشا ?بحق- سمت التفاؤل العقلاني في نبرات صوته، وقد عتقته السكينة في قسمات الوجه، والنظرات. فتتخايل ظلاله الرمزية أبعد ما تكون عن مهاوي الخيبة السوداء، بدون خوف ولا ضغينة، لم تفتر جذوة الروح الناقدة، المتمردة، تمد دواخله /دواخلنا بجنون الأمل. هكذا كتب عبد اللطيف اللعبي «يوميات قلعة المنفى»، و»حرقة الأسئلة»، و»الهوية: شاعر» و»قاع الخابية». لمجابهة النسيان، والتخلص من وشم قديم في الروح والحنايا، وامتحان صبوات الحياة، واختزال تفاصيل المعابر والمعازل، التي أرخت لمواجد الذات وتطلعات المحيط وتحولات الزمن، ومجابهة ذلك الضمير المستتر الذي كثفت هامشيته سنوات المنفى الدائم والسؤال المسترسل، وليقدم تجربة تتجاوز ذات الكاتب الضحية، فالضحية لا تتكلم، وإنما تموت، بينما الكاتب يشهد، يكشف عن معنى آخر للكتابة ، المعنى الذي يستنطق ضمير الانتفاء. يمثل المتكلم في كل كتابات اللعبي كبرهان على جدوى الممناعة في دائرة تفتقر إلى معيار متوازن للقيم، وبغض النظر عن وضع الانتفاء والانشقاق التاريخيين اللذين ميزا حالته شخصيا، في تجربته مع فقدان الحرية ثم الرحيل والاغتراب؛ فإن الممانعة مافتئت تكرس أبعاد «الانزياح» و»الخروج» بوصفهما محصلتين رمزيتين حاضرتين على جهة اللزوم في أية عملية إبداع كبرى، تتطلع إلى تخطي وضع الضرورة، قبل أن تكون فجوة ذهنية مسكونة بالسؤال بين الذات ومحيط انتمائها، وبين المبدع وأصوله. صحيح أن الابتعاد الممتد في الزمن، المسربل بالعذابات، لا يخلو من انثلام في الوعي، هو نتيجة الخيبات المتكررة في إيجاد مساحات خصبة للممارسة الكتابية المنطلقة، وصحيح كذلك أن المنابذ القصية في الجغرافيا، تنطوي على مقومات حصار وجودي دائم، إنما الأكيد أنها تمثل أفقا فارقا لاستبطان الذات، دون وجل من تسطح الرؤية بفعل الانغمار في فضاءات الألفة. ولا يجب أن ننسى هنا أن المنفى و/ أو المعتقل لم يكن زمنا ظرفيا في تجارب «ناظم حكمت» و»نيرودا»، كما لم يكن زمن عبور عند «جون جنيه»، وإنما صيغة عيش وتفكير لا رجعة فيها. إنه، الموقع ذاته الذي جعل «اللعبي»، في اعتقادنا، يرى في العزلة القهرية تجليا استعاريا لوطن الكتابة؛ ذلك، على الأقل، ما يوحي به عنوان كتابه «يوميات قلعة المنفى»، الذي لم يكن يبتعد عن كونه تفصيلات شفافة لانخراط متجدد في عالم رمزي يجاوز شرنقات السجن والبلد والمحسوس جملة، إلى الأفق الرحيب للتعبير الجمالي، وهو المعنى الذي تعيد صياغته صور متواترة في مجمل كتاباته الشعرية والنثرية، حيث يصير «التوحد» امتيازا قدريا، ضمن معادلة توازي بين كيان المبدع وحالة الاغتراب. إن عزلة الكاتب لا يمكن أن تكون مجرد شعور بالتباعد الحسي إزاء أصل مفقود، سواء كان فضاء، أو محيطا بشريا، أو سننا مشتركا؛ كما يستحيل أن تضمن تماهيا، مع سياق يفترض فيه أن يكون مؤقتا وعابرا . إن وضع «الانتفاء»يكثف من إيقاع التوتر الناجم عن إحساسي الاقتلاع واللاتماهي، ويجاوزهما في آن، ليتحول إلى انتماء عاطفي إلى عالم يلتبس مغزاه ومداه حتى لدى المبدع المعني، إنه بالأحرى مسوغ السؤال الدائم الذي يجعل من الكتابة سفرا للبحث عن المعنى، وقلقا شبيها باللعنة القدرية التي تطغى لتختصر كنه الحياة في منطق الشاعر المنذور للتيه والرحيل أبدا. غالبا ما تكون القيم درسا موجها للآخرين، تنغلق دونه تخوم الذات المحصنة خلف قناعاتها المتعالية، وتغدو الكتابة لعبة للتخفي خلف أقنعة مجازية تستبدل بالموقف الحياتي، تعبيرات صورية موهمة بفضائل افتراضية؛ ذلك جزء من الغواية المرائية للأدب، وهو ما يجعل، ربما، صيغا عديدة لخطابات المثقف والكاتب تمثل مظهرا آخر لمفارقات المؤسسة، حيث يرسل الخطاب لقوته المظهرية ولما ينطوي عليه من قدرة على التأثير بصرف النظر عما يتضمنه من قيمة ذهنية راسخة في الاختيار السلوكي والقناعة الممارسة. فتبدو المحافظة على تلك المسافة اللاشعورية بين البروز الأخلاقي والكمون النفعي للمثقف، علة للنجاح والتفوق والغلبة، وغالبا ما يكون الفشل في التحكم في منطق الإيهام، وإتقان مهارات التمثيل، دليلا على الإخفاق الذريع أو على هامشية الكاتب وضموره. ومن ثم كان الهامش هو المأوى المثالي للقاصرين عن مجارات لعبة الخفاء والتجلي، وفضاء للانسجام التام بين الموقف الحياتي وعقيدة الأدب. هكذا يعلمنا اللعبي في كل مرة أنه لا يمكن كتابة أدب بخلفية أخلاقية دون التزام بقدر كبير من الصرامة مع الذات: صرامة مع المتطلبات الشخصية ومع اللغة والذاكرة والمحيط الاجتماعي، وصرامة في الحفاظ على الحرية الذاتية وفي مجاوزة الاشتراطات العابرة. ولعل تلك القدرة الاستثنائية للكاتب المقاوم هي التي تجعل صورته مسربلة بالعتاقة، وبالإيحاء الأسطوري المنتمي لزمن مفقود. فالقيم من الكثافة والقوة بحيث تكاد تفقد كل معنى مباشر، وهي من الألفة والبداهة بحيث تضحي غير جديرة بالتأمل: درسا تقليديا مفروغا منه. ولعل ذلك ما يجعل الإقرار بتلاشيها وغيابها صعبا ومحفوفا بالحرج. إنه درس «اللعبي» المتواتر عبر أزيد من ثلاثة عقود، كشف شفيف لجدل النفي والإبداع، وبرهنة للذات على أن الأدب بحث عن التوازن الداخلي، وجدلية مطردة بين الصوت الصادق والاختيار النقدي في الحياة وبين الناس. وإيمان عميق لذلك المتلبك دوما من كتابته وشهرته، بأننا لا نكون ذاتنا إلا بنفيها عند اللزوم، لا أنسى قوله لذلك السائل الفضولي العابر الذي لم يصدق أنه يصادف الكاتب الشهير في أحد أزقة مدينته النائية، حين سأله: هل أنت عبد اللطيف اللعبي؟ فأجابه: أحيانا !!. - قدمت هذه الورقة في اللقاء التكريمي الذي نظمه مجلس مدينة الرباط و المكتبة الوطنية بمناسبة فوز الشاعر عبد اللطيف العبي بجائزة الغونكور .