مدرار من البكائيات ما فتئ يُترع آذاننا بما يشبه اللغو والتأثيم عن الوضعية المأزومة للشعر، رغم أن الأدب عموماً، مهما شطَّ في أجنحة التخييل، ليس بقعة أرضية في الجنة، إنما واقع تجاري يخضع كأيتها بضاعة جمالية (السينما، المسرح، التشكيل) لناموس الماركوتينغ المستعر بمنطق الخسارة والربح؛ وحتى لا ننظر بكافكوية ممسوخة إلى وجوهنا في مرايا الآخرين، نجزم أن شعرنا المغربي بل والعربي أيضاً، لمَّا يزل قادراً على الاختلاء بالأرواح في وُكْنَات إشراقاته الداجنة، ليس فقط بمعيار ما يباع من نسخ الديوان الذي يخطه بجمالية حداثية تستنطق الذات والكون، شعراء حقيقيون، ولكن ببرهان ما يُنشر أسبوعياً من نصوص شعرية في بعض الملاحق الثقافية بالمغرب والعالم العربي؛ فالخطاب المتداول لأزمة تلقي الشعر، لا يجب أن يطمس الأذهان، إما بذريعة العالمية أو بدافع التأثر بكل وافد من الغرب، عن حقيقة ما يعرفه الشعر المغربي من حياة موقوتة، في وسطنا التداولي إعلاماً وإصداراً وترجمة؛ وما يستفيضه من سُلاف التصورات العاشقة أو التبئيرية تنظيراً؛ لنقل إن عالمية أزمة الشعر، لا تشمل أبداً بخريطتها المنسوجة على نول إيديولوجيا النهايات، خيال الإنسان المغربي والعربي الذي مازال في حاجة إلى توسيع الكثير من مضايق الحياة الضنكة ولو بالاستيهام اللغوي؛ وهنا أستحضر المقالة القصيرة التي كتبها بمرارة حنظلية «جاك غوبود» تحت عنوان «عناد الشعر» في عدد يناير 2010 من صحيفة «لومند ديبلوماتيك» الشهرية؛ لكن يبدو أن جاك اتزر منذ البدء بحداد النعي الذي يشيع مع كل سنة من القرن (21) ناووس الشعر، موقنا أنه ما فتئ يفقد مساحته الأثيرة في الجرائد؛ فمثلا في الملحق الثقافي لصحيفة «لومند» الفرنسية (Le monde des livres) ، يمكن أن تنصرم سنة كاملة، دون أن يحتضن في إحدى صفحاته، عرضاً أو تحليلاً لكتاب واحد جديد في الشعر الفرنسي المعاصر، كما أن المكتبات في السواد الأعظم لرفوفها، لم تعد تحفل بهذا الصنف من الأعمال الشعرية، التي صَوَّحت أيضا بحيراتها في صندوق التلفزيون؛ ثمة نوع من الانزعاج يسري بدبيب نمله المتوتر في أوصال المؤسسات الثقافية التي لم تستطع أن تستخلص من تبر المجتمع، سبيكة نتيجة واحدة عن سبب هذا الوضع المأزوم للشعر؛ ليبقى الحبل ملتويا حول رقبة الغارب دونما تقديم أي تفسير؛ وينبري «جاك غوبود» بمثالين؛ يتعلق الأول بدولة المكسيك التي استدعت ثلة من الكُتَّاب إلى صالون الكتاب الأخير في باريس، دون أن يحضر شاعر واحد؛ كما لم يحضر -وهذا هو المثل الثاني - أي شاعر بين الكتاب المبعوثين إلى ربيع الولاياتالمتحدة، لتمثيل الأدب الفرنسي اليوم؛ وحين نتغيا أن نزيد حمامة الشعر طوقا، سوف نجد أن لجنة تحكيم جائزة نوبل للآداب، حين قررت أن تتوج عام 2008، كاتباً فرنسياً، آثرته روائيا (غوستاف لوكليزيو)، ولكنها ضربت الأرض بحافرها بَرِمَةً من أهم شاعر فرنسي على قيد الحياة ألا وهو «إيف بونفوا»؛ هل يمكن أن نغزو النتيجة المأزومة لهذا الجنس من الأدب، إلى العدم الذي بات يعرفه الشعر على المستوى الاقتصادي؛ أي بما أن الشعر لايباع، فهو غير ذي أهمية، ولأنه أيضاً دون أهمية، فهو لايباع؛ لن نسلّم رقاب قوافينا إلى مقصلة هذا الكوجيطو الاقتصادي، لكن الأكيد أن هذا الجنس الأديب يقول «جاك غوبود» في فرنسا دائماً ليس الوحيد الذي يتضاءل رويداً في المشهد الثقافي المعاصر، ثمة الرواية أيضاً، بل الأدب عموماً، وامتدت هذه العلة بجراد كسادها الماحق إلى شجرة الكتاب؛ ترى من المخطئ؟؛ إن مسؤولية هذه الوضعية المتدنية لرواج الشعر، تعزى إلى الشعراء أنفسهم؛ هكذا تنهمر كنانة من سهام الاتهامات لتفسير وتبرير هذه الأزمة التجارية؛ منها أن الشعراء المعاصرين يتحلّون بالصعوبة، أو أنهم نخبويون... إلخ؛ هنا وإذا كانت خريطة العالم ديواناً شعرياً، كبيراً فلن أزيغ بأصبع التأشير، قيد قصيدة، عن نقطة إسمها المغرب، لأجزم أنه لولا انهيار بعض القيم الأخلاقية والأدبية الذي بات يُصَدِّعُ كيان مؤسساتنا الثقافية، لانطلقت هذه العالمية من رحم حركتنا الشعرية في المغرب...