روسيا والصين تخوضان مواجهة إستراتيجية مع أمريكا عبر دعم خصومها... يقدر البعض أن سياسة ترامب الرئيس السابع والاربعين للولايات المتحدةالأمريكية ستنجح في تحقيق ما وعد به خلال حملته الانتخابية في جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى وتقزيم أو تفتيت منافسيها وفرض نفسها كالحاكم المطلق للعالم في ظل نظام عالمي أكثر انضباطا عن كل ما سبق وقائم على أساس القطب الواحد. آخرون يرون العكس تماما ويتوقعون بأن سياسات الرئيس ترامب ستقود إلى إنهيار الإمبراطورية الأمريكية لتلتحق بالامبراطورية البريطانية وغيرها من القوى الضخمة التي هيمنت على المعمور خلال حقب ماضية، ويذهب قسم من هؤلاء الذين يتوقعون نهاية الإمبراطورية الأمريكية إلى أن ترامب قد يركب مغامرة المواجهة العسكرية مع منافسي أمريكا الرئيسيين إذا وجد أن الأساليب والتكتيكات الأخرى التي اتبعها ويتبعها لن تحقق ما تطلع إليه، وهذا لا يعني سوى الحرب العالمية الثالثة والاستخدام الواسع للأسلحة النووية. القوى التي ترى واشنطن أنها تنافسها وتمنع استمرار تربعها على عرش العالم عديدة، وفي مقدمتها روسيا من الجانب العسكري أساسا، والصين من الجانب الاقتصادي بشكل رئيسي، وإلى جانب هاتين القوتين توجد قوى إقليمية في طريقها للصعود بسرعة على سلم القوة العسكرية والاقتصادية لتشكل تهديدا أو منافسا للهيمنة الأمريكية والغربية في عدة مناطق من العالم. وما بين القوى الكبرى والإقليمية تحالفات غير واضحة المعالم وقابلة للتبدل مما يجعل من الصعب على واشنطن والمخلصين في حلفها اختيار أفضل الطرق التي ترى أنه يجب سلوكها لتأمين مصالحها وقدرتها على مواصلة تحقيق الازدهار الاقتصادي وتجميع الثروات ولو على حساب من هم أقل قوة. طاقات واشنطن مشتتة بين التركيز على ما تقدر أنه التحدي الأساسي لها ويوجد في شرق آسيا أي الصين، وبين الشرق الأوسط المركز الذي ترى أنه المفتاح أو الأداة الرئيسية التي يمكن لمن يسيطر عليها أن يرجح الكفة لصالح طرف على آخر في ساحة الصراع الحالية. تشكل إسرائيل أداة الغرب الرئيسية في جهود تشكيل التوازنات وضبط المصالح فيما يوصف بغرب آسيا أو الشرق الأوسط المركز، ولكن داخل المعسكر الغربي الذي تتزعمه الولاياتالمتحدة توجهات بينها فروقات يمكن وصفها بغير الأساسية، فالبيت الأبيض يؤيد الهيمنة الإسرائيلية المطلقة وقدرتها على إخضاع كل من يواجهها، ويرفض فكرة الدولة الفلسطينية والوحدة بين الأقطار العربية، بل ويسعى ورغم تبدل المتحكمين في سياسته إلى نشر ما يسمونه بالفوضى الخلاقة لتقسيم دول المنطقة إلى ما بين 54 و 56 دولة على أسس عرقية ودينية وقبلية ومناطقية مما يسهل الهيمنة المطلقة عليها. ولكن حلفاء لواشنطن وخاصة في القارة العجوز يريدون وضع ضوابط للسيطرة الإسرائيلية حتى يحفظوا جزء من مصالحهم ومنع واشنطن من ان تكون الحكم المطلق. منذ حرب أكتوبر 1973 وإنكسار إسرائيل سعت واشنطن ومن يساندها إلى تبديل موازين القوى في المنطقة والعمل على تدمير كل القوى الناهضة التي يمكن أن تولد تهديدا لإسرائيل وبالتالي لمصالحها وهكذا تم تدمير العراق واحتلاله وجاءت بعد ذلك أدوار تخريب ليبيا وسوريا وإشاعة الفوضى والأزمات. شكلت عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023 صدعا خطيرا في مخطط الشرق الأوسط الجديد أو الكبير كما يحب المحافظون الجدد وصفه، حيث أنها خلطت كل الأوراق وفرضت عودة تصدر حل القضية الفلسطينية كضرورة للاستقرار واستدامته، فالعكس كان يسمح للقوى الكبرى الصينوروسيا والقوى الإقليمية تركياوإيران وفي المستقبل الهند وباكستان بالقيام بأدوار تحرم الاحتكار الغربي في رسم التطورات المستقبلية. ولكن ما هي الأدوات والقدرات التي توجد في قبضة الرئيس الأمريكي التي يرى أنه يمكنه بها تحقيق أهدافه؟. في المواجهة الاقتصادية مع الصين لا تملك واشنطن سوى اختيارات محدودة، وأساسا حرمان الصين ليس من السوق الأمريكية فحسب من أغلب أسواق العالم، السوق الأمريكية بالنسبة للصين لا تشكل سوى 3 في المئة فقط حجم تجارتها العالمية، ولهذا فالتعريفات التي تفرضها واشنطن على السلع المستوردة من الخارج وأساسا الصينية ليست سوى مقدمة لعملية أوسع تستهدف إجبار أغلب دول العالم على سلوك مشابه ضد الصين وإلا تعرضت للعقاب، وهو ما ترى واشنطن أنه يضمن تركيع بكين. ولكن الكثيرين يشككون في قدرة ترامب على تحقيق ذلك، ويوم السبت 5 أبريل اعتبر ترامب، أن الحرب التجارية التي تخوضها الولاياتالمتحدةالأمريكية ستؤتي ثمارها داخل البلاد، مؤكدا أن "هذا الأمر لن يكون سهلا"، وداعياً إلى "الصمود"، وذلك غداة رد صيني وتراجع كبير شهدته أسواق المال العالمية. وأورد الرئيس الأمريكي، على منصته "تروث سوشال"، أن "الصين وجهت ضربة أشد بكثير من تلك التي وجهت إليها (...) نستعيد وظائف وشركات كما لم نستعد من قبل (...) إنها ثورة اقتصادية وسنربح. اصمدوا، هذا الأمر لن يكون سهلا، لكن النتيجة النهائية ستكون تاريخية". ولفت ترامب في كلامه إلى أن إدارته استطاعت جذب استثمارات بأكثر من 5 تريليونات دولار حتى الآن والرقم في ازدياد متسارع. وبرر ترامب إجراءاته بأن الصين ودولا أخرى "عاملتنا بشكل سيئ" لكن هذا انتهى الآن. وكانت أسواق الأسهم في وول ستريت قد اغلقت يوم الجمعة 4 أبريل بخسائر حادة بلغت نحو 6.6 تريليونات دولار على مدى يومين، جاء ذلك بعد إعلان ترامب الرسوم الجمركية الجديدة على مختلف الشركاء التجاريين. على الصعيد العسكري تختفي وبسرعة مقومات القوة العسكرية الأمريكية لصالح خصومها ومنافسيها. في وسط أوروبا حيث تدور حرب بالنيابة بين الناتو وروسيا على الساحة الأوكرانية يناور البيت الأبيض بين محاولات تكسير التحالف بين موسكووبكين ومع طهران كذلك، ثم مواصلة المشروع القديم الذي دشن في عهد الرئيس الروسي السابق يلتسين لتمزيق روسيا الفدرالية إلى ما بين 8 و 11 دولة كما تم مع الاتحاد السوفيتي في 26 ديسمبر سنة 1991 وبالتالي التفرغ للصين واعطاء أوروبا جزء من غنيمة الثروات الروسية الهائلة الموزعة على أراضي تمتد من وسط شرق أوروبا حتى سواحل آسيا على المحيط الهادئ. ربما تكون من المفارقات أن تشكل حرب غزة وترابطاتها في لبنان واليمن، والصراع الغربي مع إيران، أداة تأثير أساسية في التحركات على رقعة الشطرنج العالمية، التي اعتبرها زبيغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق الأولوية الأمريكية وضروراتها الجيوستراتيجية.