افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليوم الخميس 19 شتنبر 2024 الفكْرة إذا استَحْوذتْ على الأذهان، ووجدت حصيدها الوفير حتى لا أقول هشيمها من المُسْتضعفين، فإنّها تكون أشدَّ اندلاعاً من الجمرة، ولَطَالَما راودتْ فكرة الهجرة الإنسان منذ الأزل، إمّا تحْسيناً لظروف العيش أو هرباً من الخطر، وها هي اليوم نفس الفكرة، تنْفجر بين ظُهْرانينا في مشهد جنائزي مَهيب بباب سبتة، دون أن تمنعها كل القوى الأمنية والأسوار العالية، من التَّسرُّب عبر الكاميرات على مرأى العالم، ألمْ أقل إنَّ الفكرة أشدّ اندلاعاً من الجمرة ! لقد ضاقتْ سُبُل العيْش ومعها الأفُق، بشباب وكهول ونساء وأطفال البلد، وضربوا موعدا مع البحر في الفنيدق، في نفْس موسِم هجرة الطُّيور، بحثاً عن جغرافيا تلائم بمناخها، حلُماً مَحْضُوناً كالبيض في العُش، لمْ أكن لأتخيّل حتى وأنا أكتب قصيدة، أنْ يأتي يومٌ يُصبح فيه أمل الشباب، أقوى في الضّباب، للتَّسلل من الحدود باتجاه الشمال واقتلاع الجذور من التراب، أجل ما كان ليخطر بذهني المُشوّش من هول المشْهد، أن الهِجرة حين تكون هروباً، يمكن أن تبني حساباتها المصيرية، على أوْهَن الأسباب، بما فيها أحوال الطقس، ولا يهم أن ينقلب المناخ بتوقُّعاتٍ كارثية، لا يهم أن ترتفع الأمواج كالجبال بأنْواءٍ عاصفية، ما دام الغرق يضع حدّاً لليأس! يا ألله.. إنهم ليسوا عشْرة أنفار أو حتّى مائة، بل تحْسبهم وهم يَنْسِلُون في جحافل من كلٍّ مُدُننا هاربين، أنّ الشّعب برُمّته حضر إلى الفنيدق المُشاطئة لإسبانيا، مُلبّياً هاشتاغ 15/9، ويعني هجرة جماعية عَلَنيّة يوم خامس عشر شتنبر، لا نعرف من ألقى هذه الكُرة الثّلجية في وسائل التواصل أو التكاسل الاجتماعي، ولكن الأكيد أنّها وجدت في الجليد الذي جمّده الفقر المُدْقِع، الهشاشة المُناسبة في نسيج المجتمع، لِتَجْرف الطّبقة الأكثر حيوية في هَرَم تَفاوتتْ فيه الطّبقية سحيقاً، إنّها طبقة الشباب الذين أرْهَقتْ مُراهَقتَهم أحلامٌ موْؤودة تحت الوسادة، وهاهُم أشبه بالشيوخ في الرّيعان الذي يلي الولادة، كيف لا والخيْبات لا تُمعِن إلا في المِحَن، وما من قطاع حكومي بالبلد يُلبِّي أبسط حاجيات هؤلاء اليافعين في العيش الكريم، في الصِّحة التي لا تعترف إلا بصحّة الجيوب، في الشُّغل فهو غير موجود أو بِحدٍّ أدْنَى للأجور يَعَافُه حتى البغْل، في التَّعليم الذي اتخذت الأرانب قِمطْراته أوْكاراً آمنة، ألمْ تَرَ أن التّلميذ كُلّما استعدَّ لموسم دراسي جديد، يُقْفَل في وجهه الباب بتجديد الإضراب ! إذا كانت الأم تُجهشُ من عينٍ بدمعة ومن أخرى بالدم، باكيةً ضياع ابنها سواء نجا ووصل للساحل أو ابتلعه اليَم، فالأجْدر بالدولة أن تبكيه بكل أدمع أنهار العالم، ليس لأنها خسرت بهروب هؤلاء الشّباب، أموالا باهظة في تطبيبه وتعليمه ومعيشته، فذلك يُعتبر مالا عاماً يدفعه الشّعب بمرارة من كل جانب، إنّما الخسارة حين تقطف بلدان الغير، ثمرة هؤلاء الشباب، جاهزةً بسواعد قويّة بعد أن اشتدَّ العُود، فهُم هناك باليد العاملة إما رافعة اقتصادية، أو من يدري ما المُخطَّط مع الحرب المُحْدقة بأوروبا، قد يُصبح هؤلاء الشباب الحالمين بمستقبل أفضل، مُجرّد حطبٍ في الصفوف الأماميّة ووقود ! إنّ الفتْنة نائِمة وتتميّزُ غيْظاً من النِّقْمة بسبب تدهْور القُدْرة الشِّرائية، فَمَا مِن أجْرٍ يتقاضاه اليوم موظّفٌ أو طالِبُ معَاش، يستطيع مُجاراة نزيف الزيادة المُستمر في الأسعار، وقد تكون هذه الفتنة مدْسُوسة تحْت الثياب في الشّارع العام، ولكن قبل أن نلْعَن مَن يُوقظها وهو يُمَسِّدُ شارباً أو لحيةً، يجب أن نُهيِّء وضْعاً مَعيشيّاً كريماً للمُواطن، أوَ ليْس الأجْدر أنْ تَعْقِد الحكومة اجتماعا طارئاً لِرأْب هذا الصَّدْع الاجتماعي، وإلا ستجدُ كل فكرة تطفو للسّطح، أسْبابها المَعْقولة لِتهْديد استقرار وأمْن البلد، والفِكْرة أحياناً أقْسى غُرْبةً من الهِجْرة !