افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليوم الخميس 25 ليوليوز 2024 نُقْفل آخر عدد من ملحقكم "العلم الثقافي" في هذا الشهر، ونُقْفل معه موسما ثقافيا كان في سنةٍ تختلف من حيث وطأة المشقّة والألم، عن باقي السنوات في حربها الباردة، ولا نحتاج للتَّفْصيل في أكفان اللغة ليُدرك القارئ أن المعنيَّ بالجُثّة هو الإنسان العربي، وأنّ الإبادة التي مازالت تُنْقِص أهالينا يوميا في غزة بعشرات الآلاف، إنما هي نتيجة إبادة أصابت منذ قرون الهِمَم والنفوس، فانظر حواليك..لا حياة لِمن تنادي، سوى رقابٍ تحمل كفزّاعات أجْوَفَ الرؤوس ! أعْترف أنّي لامستُ خلال هذه السّنة من الإشتغال الثقافي التي نُودّعها غير آسفين، صنْفاً من الفتور عند البعْض، في جُرأة النقد والجهْر بالموْقف المُشرِّف، ذاك الذي يُخلْخل الآسن في قضايا وثيقة المصير بوجودنا في هذه الرُّقعة من العالم، استشعرتُ الرعب من مجْهول يُحْدِق بالبشرية من كل أفق، ولكن يبدو أن القلب مات، وما عاد ثمة من وجيب أو نبض، في هذه المضغة التي فسدت كزهرة لا تحتمل الضوء، مات القلب وما عاد يصل للعقل إلا دمٌ بارد، لا أحَد يُحرِّك ساكناً، ومن حرّكهُ بجرّة قلم إعرابية عن ما يجيش في الضمير المُسْتتر، فهو إمّا مرفوعٌ من مَنْصبه أو مجرورٌ خلف الشمس ! الأوجُه لا أعرف ما الذي انْتَحلها بألْف قناع، الأقلام لا أعْرف ما الذي كسَرها فاسْتبْدلتِ الكلمة الصّادقة بِليِّ الذراع، لقد أصبح الجميع رابضاً في المراتع مُسْتسلماً للأمر الواقع، ولا أحد يتجرّأ أنْ يزيغ بخطٍّ تحْريري بعيدا عن خطوط على أظهر حُمُر الوحش، ألمْ أقل إنّ القلب مات، كيف لا والمُدجّنُ الحاضنُ مع الدواجن، لا يُهمُّه إلا الظفر ببيضة تُفرِّخ كتاكيت في العُش ! مات القلب ومعه النّقد الذي بدون رنين في الجيب، ومن أراد قياس درجة الحرارة التي بلغها الوعي في فرن المجتمع، يكفي أن يُلقي بدل عجين الخبز، من القول أو الفعل جميلُهُ أو سيِّئُهُ ما يُفيد النقد، ليُفاجأ كيف اتخذ كلامه أو صنيعه الجميل أو السيء الذي تجاوز النقد إلى النَّكَد، ما لا يخْطُر على إبداع من أقنعة استعارية ليصير مسْخاً! مات القلب ولم نعُد نسمع في النبض إلا ذلك العزف الرديء لأُحادِية الرأي، فما أفظع أن نكون مُتشابهين مثل كؤوس حياتي، ولكن الأفظع أن ينْتاب المرء ندَمٌ على اليوم الذي أمسكَ فيه عكاز القلم، أليست بعض الأفكار أيضا عمياء، وتحتاج لمن يجتاز بتعثُّرها شارع المجتمع، من رصيف الجهل إلى رصيف التنوير ! لقد أصبحت حبَّةُ الفهم تُباعُ بالمكاييل مع أكياس القطاني وحبَّة حلاوة والحبَّة السوداء في السوق الرحبة للثقافة، وصار الجميع كاتبا وشاعرا وصحافيا، يشتغل ليل نهار دون حاجة لمكتب في القطاع العمومي لصفحات التواصل الإجتماعي، وغدا بعضُ هذا الجميع لا يني يتَّخذُ من الكلمة كيفما اتفق دونما ضوابط أسلوبية ونحوية أو حتى إيقاعية قد نجدها في البندير، سكِّيناً للكريساج في شوارع الفيسبوك أو التويتر وغيرها، الخالية من حراس المعنى، فلا نملك إزاء هذا العنف الرمزي، إلا أن نُفرغ جيوبنا من كل الأفكار مُعْلنين الإفلاس الروحي، لنهرع إلى النوم باكراً مع أهل التخصُّص الذين أدركوا أن أعين السّهر قلقاً في ضريح الكتابة، قد اتسعت أكثر من اللازم، و لم تَعُد تصْلح مع سيادة كل هذا الفهم الكبير في النقد غِرْبالاً ! لا أودِّع إلا لأرجع، شأني شأن كل المُثقفّين الشرفاء، أولئك الذين لا تُهمُّهم من البهْرجة إلا ذلك الظهور السّاطع في الخفاء، أولئك المُنْشغلون عن جشع تلْميع الذات بما هو أجدر بالحياة، إنهم الأطباء الحقيقيون في الميدان دون عيادة أو قيادة، الذين يشتغلون فانِين أعمارهم في إنعاش القلب، هم بأقلامهم المِشْرط والأسَل، هم مَنْ يُصبِّرنا بجلَدٍ على احتمال تفاقم انعدام الضمير، هؤلاء المثقفون الشرفاء خارج دائرة الضِّباع، هم مَن يصْنع الأمل، لنرجع دائماً إلى أرواحنا صادقين دون أن نودّع !