أكتب إليكَ في موضوع أولئك المستضعفين، الذين ما زالوا يأملون خيراً في المثقف الذي يتكلم باسمهم ويدافع عن حقوقهم، أولئك الذين تَحَوَّل أَمَلُهم في المثقف إلى سراب كلما لمحوه يداً مطيعة في يد السلطة، أولئك الذين تجرعوا مرارة الظلم مرة، ومرارة خيانة المثقف لمرات.. خيانة يحملونها كما تحمل الأم جنينها.. أولئك الذين ما زالوا يأملون خيرا في شذَراتك الكاذبة، ينتظرونكَ أن تَصْطَفَّ في الطوابير المُؤَدية لهمومهم الجارحة، أولئك الذين يعتقدون أنكَ لسان حالهم كلما دَعَت الضرورة لذلك، فهم "لا يعرفون أن من ينطق بلسان غيره لا يتكلم، من ينطق بلسان غيره يكون قد ابتلع لسانه ليتحول كلامه إلى دسائس ومؤامرات".. عجيب أمر المثقف اليوم، أصبح لا يتقن إلا لغة التنديد والاستنكار، فهي حيلته لإرضاء السلطة، مثقف تُحركه الظرفيات ويصنعه الإعلام، ولم يعد صالحا إلا للمناسبات الثقافية والأعياد الوطنية التي اختزلها في الانتماء وحب الوطن.. إنني أشعر بتطبيعكَ مع السلطة أيها المثقف، لكني لا أبارك ذلك باسم الثقافة، وأتفهم رغبتكَ في التصالح مع (المخزن)، غير أن الثقافة تلزمنا الوقوف جنب الضعفاء ومصالح الشعب، لا أن تجعل مِنّا عبيدا في يد السلطة... أن تكون مُثَقفا في الوقت الحاضر معناه أن تعيش حدَّ التُّخمة من فُتات السلطة، لِتَقْتل أحلام الشعب بسبب نهبك وطمعك. أليس من اللائق أن تنطقَ وتخرجَ عن صمتكَ؟ أليس من المنطق أن تُسمع صوتكَ للجمهور قبل أن تَعمل على إسماعه للسلطة؟ كيف استطاعت السلطة اليوم أن تُرَوِّضَ فِكْرَكَ وتوجهه، حينما كنتَ مُشْبَعاً بمفاهيم الماركسية والأيديولوجيا التي تربَّيتَ ونشأتَ فيها بغية الدفاع عن هموم الشعب ونُصرة المستضعفين، واحتقار السلطة والمفسدين؟ لَم يعد المثقف اليوم قادراً على إِعْمال الفِكر المُتَرَوِّي بهدف توليد أسئلة وبناء حقائق، وإنما هو جريٌ مُتعجّل نحوها، إنه ابن عاقٌّ تَنَكَّر لجميع فئات الشعب، مثقف يتيم، لا موقع ولا لون له. المثقف اليوم صار أبكم غير قادر على الكلام، إنه أقرب إلى الموت المبكر الأقرب إلى الإقصاء، مثقف ماكرٌ يَتَلَبَّسُ ألف قناع لامتصاص غضب الشارع وإفراغه من محتواه، يتصيَّد النقط التافهة التي تبعد عن المركز ليبرز أنها مركز بدورها وأنها النقطة التي تتخلخل عندها المركزية. المثقف الأبكم يا سيدي لَمْ يَتَعَّلم من الثقافة سوى ما أمَرَتْه السلطة بتعلمه، ولم يعد يُحسن الكلام إلا في عقوق الإنسان، أما الحقوق فهي محفوظة للكتاب الشرفاء وأصحاب الضمير. المثقف الأبكم لم يعد يستطيع الزئير في وجه بؤس العالم، إنه مثقف بلا قلب، يعيش في المستنقعات، ولا يستنشق إلا ريح المخزن العاتية التي تأخذ معها كل الحدود والقيود، فلم يعد قادراً على التجديف ضد التيار، ومِن كثرة الإبحار في المستنقعات تَعَلَّم نقيق الضفادع. الأبكم يا صديقي اعتاد الكرسي الفارغ، لأن كلامه لم يَعد ثقيلا يصلح للأعالي، بل من شدة خفته أصبح يصلح للمنحدرات، كلما نطق به تبخر في السماء. لا عليكَ أيها المثقف فأنت ضحية مَن عَلَّمَكَ أن الثقافة هي حبيسة جدران الجامعة.. لا عليكَ فأنتَ ضحية مَن عَلَّمكَ أن الثقافة هي ما تريد السلطة إيصاله للشعب.. لا عليكَ فأنتَ ضحية نفسكَ حينما اخترتَ المصالح الشخصية عوض الحديث عن الصالح العام.. لا عليكَ، فلقد خذلتَ مَن عَلَّمكَ أن المثقف هو من يتحدث باسم الجمهور وليس باسم السلطة.. ماذا لو خاطبتَ الناس في مشاكلهم؟ قد تعود لكلماتك الحياة، ويكون لها صدى بين المُعذَّبين في الأرض، أو ربما ستظل كلماتكَ خالدة خلود هذا الصمت القاتل.. عديدة هي القضايا التي أُريدُ أن أحدثكَ فيها أيها المثقف الأبكم، وفي مقدمتها تلك التي تسميها (المتلقي) الذي جعلتَ منه شيئا وعملة تقتات منها. لقد خنتَ المتلقي وجعلته وسيلة لا غاية، فأصبحَتِ الكلاب الضالة أكثر وفاء منكَ.. مثقف اليوم مطالب بالتفاعل مع نبض الشعب وليس التآمر عليه، وانتهاج طرق سليمة في التفكير، أكثر مما هو مطالب بجمع معلومات وتوليد معرفة.. لن يعود فضاء المثقف كما شاء له الشعب أن يكون، ولن تعود لغته سُمّاً وترياقا، ووسيلة لمقاومة السلطات، ومجالا للمواقف والنضالات، إنها لغة عذبة أقرب إلى الاجترار والتقليد، مَيَّالَة إلى المباركة والتطبيع، لغة ملطخة بالخيانة والمكر. *كاتب مغربي