بقلم فؤاد وجاني يقال إن الثقافة مجموعة من المعتقدات والأفكار وأنماط السلوك التي يتشاركها أعضاء المجتمع الواحد، وتتجلى قيم المجتمعات من خلال الآداب والفنون والقصص والموسيقى والطقوس والعبادات والعادات والتوجهات، اما اللغة فتبقى أمرا حاسما في الحفاظ على الثقافة. الكثير من جنود الفكر المستعربين والمستسلمين –العرب مجازا- قد ارتدوا عن خوض المعركة، وانحازوا نحو أسهل السبل، وتجنبوا الغوص ضد التيار، فانضموا الى صف جنود الخبز ولقمة العيش، يتحدثون عن صور الجمال متفادين فضاء القبح، ويتحاشون واقع المجتمع العربي البائس وكأنهم يعيشون في مجرة خارج درب التبانة، كلماتهم منمقة مزركشة تحكي عن زبد واقع مجتمع افتراضي. لنسمهم حقيقة مستثقفي السلطة سواء كانت سلطة المال والدهر والعيش المريء أو سلطة الحكم الباطش الطائش الجائر أو سلطة عدم الانحياز أو مايسمونه وسطية واعتدالا بهتانا. هم يشبهون كل الشبه أئمة الختان وشيوخ النكاح والوضوء والصيام والحج، أولئك الذين يطبلون للباطل على طبلات آذاننا، والذين يوقفون فكرهم عند ” ولا تلقوا بايديكم الى التهلكة ” دون الحاجة الى تفسير ماقبلها ومابعدها. ماخُلق المثقف يوما ليخشى على حياته أو رزقه مقابل الصدع بالحق أمام الباطل، وماوُجد المثقف عبثا ليعتكف في محراب فكره فيبقيه لنفسه إما كبرياء أو تجاهلا أو تصوفا، فأنى كان الخير في علم يُعْلم ولايُعَلَّم؟ إن الفكر الإنساني ثروة جماعية توزع على ألباب النخب وعقول الشعوب حسب قدر فهمهم وأسلوب اطلاعهم. والأمم لاتحتاج الى التعبير عن الجمال سوى في حال رخائها وقوتها وليس في ضعفها وهوانها. وإن بعد المثقف عن أحوال مجتمعه في ضعفه ليس هروبا فقط بل خيانة للأرض والتأريخ والهوية والناس. إذ العامة من الناس لاتحفظ هوية أو ثقافة أو لغة أو دينا، ولايطلب منها ذلك، لأن العامة كانت عبر التاريخ مسيرة غير مخيرة، مأمومة غير آمة، والفئة المثقفة هي التي تضطلع بذلك الأمر العسير الجلد وهي التي تخوض تلك المعركة الشاقة الوعرة. ومن أسمى أدوار المثقف الحفاظ على ثقافة مجتمع والرقي بسلوكه ولغته. الكلمة هي سر الخلق سواء كان الخلق كونا أو دينا أو فكرا أو نهضة. وإذا أضل أهل الكلمة الغايات أضلت العامة الطريق في الحياة. والمثقف ليس مصلحا اجتماعيا ولاخطيبا دينيا إنما هو المصباح الذي ينير مراكز الظلمات في العقول، هو المتسائل أبدا عن حقائق الأشياء، هو الحر الساعي بسبل شتى دون ملل أو كلل نحو العدالة سواء كانت عدالة اجتماعية أو عدالة مع النفس، هو الرابط بين جسور تأريخ الأمة والحاضر ومن يمدها للأجيال نحو المستقبل، هو عيون الناس التي لاتنام وإن لم يقرؤوه أويسمعوه، هو الصادق الصدوق الى حد الفحش إذا لزم الأمر في مجتمعنا المتخوم ازدواجية في الأخلاق والدين والعادات. هو اللسان السليط الممدود أبدا كالسوط في وجه الطغاة، هو الساخر حين لاينفع الجد في التقويم، هو الناقد اللاذع حين يتهاون الآخرون، هو حارس الفكر والهوية والاعتقاد، هو المنظر ذو الرؤية البعيدة الثاقبة لخير الناس والبلاد. المستثقف هو ذاك المتنكر للعدالة والأرض والناس، المتشبث بغير الحق لأجل منفعته أو منفعة طائفة. كلما هبت ريح عصفت به إلى جانب الطغيان، وكلما نادته الأهوال ليدلو بدلوه تغيب عن الأنظار. هو المتخلف أيام الزحف، الفصيح أيام الرخاء، المحب لأضواء المصورات، المعتكف أمام الشاشات، المتبسم لحوار المؤتمرات والمناظرات، هو بوق الظلم و أسطوانة الإقصاء. أيام الماضي الثليد حين فشلت الحروب الصليبية في احتلال بلاد العروبة بعد أن وجدها الغرب حصنا منيعا لايجرؤ عليه أجسر جسور، بعثوا الينا بالمستشرقين. فالمعارك لاتبدأ بالسلاح بل بالدراسة والفكر، لأن السلاح في أقصى غاياته لايعدو أن يكون سوى أداة. ونجح الغرب عبر فكره في استبدال اللغة وتحريف القيم ونصب مندوبيه في السلطات السياسية والدينية والعسكرية والفكرية يتحدثون باسمه وينطقون بلسانه بعلم وبدونه، ويقاومون عنه. اليوم لم تعد حاجة للمستشرقين لأن المستثقفين المتعربين قد جالوا وصالوا في ثقافتنا وعبثوا بقيمنا كما رسم لهم أسيادهم في الغرب. يكاد مفهوم المثقف يرادف كلمة العادل، والعدل كامن باق في كل فطرة إنسانية سليمة، والإنسان المثقف هو القادر على إحياء صوت العدل في النفوس وتفنيد سطوة الظلم. ختاما، إن حرب الغرب على العرب لم تكن يوما من أجل نهب الثروات، ذلك أنهم ماانفكوا يدفعون ثمنا لقاءها، بل إنها حرب ضد موطن الحضارة التي لم يدقوا لها بابا ولاعرفوا لها سبيلا ولاذاقوا لها طعما رغم تقدمهم وقوتهم. تلك الأرض الممتدة من ملقى بحر الظلمات ببحر الروم في جبل طارق إلى ملقى دجلة بالفرات عند شجرة آدم بالبصرة هي موطن الحضارة منذ الأزل، تلكم أرض تملك لغة وثقافة مغيبتين لايملكهما العالم قوامهما الوحي الإلهي، وذلك مايحاربون، فنعم مايحارب الخاسرون.