من الفنون التي ازدهرت ازدهارا كبيرا في أحضان الحضارة المغربية - الأندلسية فن التراجم، حتى أخذ علماء مشارقة كبار عن كثير من كتاب التراجم في المغرب والأندلس. وقيمة هذا الفن أنه خزانة وثيقة لتاريخ الفكر والعلم، وذاكرة غنية بأعلام الابداع والاجتهاد على مر التاريخ. وقد أبت الدكتورة نجاة المريني إلا أن تخلد عطاءها في هذا المضمار بالاهتمام بتدوين تراجم أعلام من المغرب عامة، ومدينة سلا خاصة، فكانت بذلك مجددة لفن التراجم في بلادنا إلى جانب أسماء أخرى، ولا سيما في مدينة سلا - المعروفة بتاريخها العريق، وصلحائها المشاهير، وعلمائها البارزين. ومن ثم فكتابات د. نجاة المريني تعبير أصيل عن حب الوطن، الذي هو من صميم الإيمان ، وتخليد ثمين لمناقب شخصيات علمية ودينية وسياسية، وأعمال نبيلة في مختلف ميادين الحياة مما ضرب به هؤلاء الأعلام المترجم لهم المثل السامق الخالد في خدمة الإسلام والعلم والوطن ، والدفاع عن هوية المغرب الإسلامية، ومواجهة كل محاولات استئصالها وطمسها. وبهذا فإن الكاتبة أضافت بمساهماتها من خلال جزئي كتابها » أعلام في الذاكرة والوجدان» ، ومن خلال كتاباتها الأخرى عن شخصيات بارزة في تاريخ المغرب القديم والحديث، وبخاصة أعلام مدينة سلا، عطاء نفيسا إلى تراث التراجم العلمية في العصر الحديث . فهي تصل -مع ما أضافه ذ. أبوبكر القادري وذ. محمد حجي وذ.مصطفى بوشعراء وغيرهم - حاضر هذا الفن -فن التراجم - بماضيه القريب والبعيد ، ولا تزال ذكرى مؤرخي سلا الكبيرين أبي العباس أحمد بن خالد الناصري ومحمد بن علي الدكالي حية في عقول وقلوب السلويين خاصة، والمغاربة عامة، لا سيما وأن فن التراجم حاضر في ما خلفاه من تأريخ للحياة الفكرية والحضارية والسياسية والعمرانية بالمغرب حضورا متميزا. فإذا اجتمع لكاتب الترجمة معرفة شخصية حميمة بالمترجم له وعلم غزير حول الفترة أو المجال الذي تنتمي إليه الشخصية المترجم لها كان العمل الذي يقدمه ذا قيمة عالية خاصة إذا صاغه بأسلوب سلس مؤثر واضح. وأظن أن د. نجاة بلغت من كل ذلك شأوا بعيدا، وتبوأت منه مقاما رفيعا في الجزء الثاني من كتابها» أعلام في الذاكرة والوجدان» الذي اشتمل - بوفاء وعناية علمية دقيقة - على تراجم عشرين شخصية من أبرز الشخصيا ت التي أنجبتها هذه الأرض المعطاء في عصرنا معظمها من سلا التي تبقى في حاجة متجددة إلى إضافات أخرى إلي كتابة تاريخها قديما وحديثا. وبقدرما تغمرك المعاني المنثالة من الموضوعات التي تناولتها المؤلفة والشخصيات التي درستها في هذا الكتاب، بقدرما يشدك سحرالأسلوب السلس الجميل الذي دبجت به دراساتها ومقالا تها. تقول المؤلفة عن عملها الجديد الصادر عن مطبعة الأمنية في الرباط - في مائتين واثنتي عشرة صفحة من قطع كبير - » ... ولا شك في أن مثل هذا العمل سيلقي بعض الأضواء على أعلام لهم مكانة وازنة وحضورمتألق في الذاكرة والوجدان ، كما أنه سيساهم في التعريف برواد مغاربة للأجيال الصاعدة من المغاربة وغيرهم ممن لم تتح لهم فرصة الا حتكاك بهم والا طلاع على أنشطتهم السياسية أو كتاباتهم الأ دبية أو معتقداتهم الفكرية، ومن ثم سيسد هذا العمل بعض الفراغ في الترجمة لهؤلا ء الأعلام والتعريف ببعض أعمالهم كما تيسر لي ذلك، خدمة لتراث مغربي له مميزاته وخصائصه، وروحه وطابعه ...» . قسمت المؤلفة هذا الكتاب إلى قسم أول وسمته بهذا العنوان «تكريم واعتزاز » ، وقسم ثان وسمته بعنوان آخر هو »وفاء وتقدير». وكلا القسمين نابض بالحياة الحقيقية الخالدة، مع أن معظمه جاء في سياق تأبيني، ولعل هذا من أبرز دروس عمل د. نجاة المريني أن تنبهنا إلى ضرورة الاستعداد للموت قبل حلول أجله، كما استعد هؤلا ء الأعلام فخلفوا للإسلام وللمسلمين وللقارئ بصفة عامة علما نافعا، وعملا صالحا، استحقوا عليهما الثناء الحسن ونرجو أن يتقبل الله منهم ما خلفوه للأجيال اللا حقة، مصداقا للحديث الشريف » إذا مات ابن آدم ا نقطع عمله إلا من ثلاث، علم نافع أوصدقة جارية ، أو ولد صالح يدعو له «. ومن هنا كان الكتاب باعثا على التأمل في حقيقة الموت والحياة ، والبقاء والفناء، فالحياة الحقيقية حياة القلب والفكر والروح ، بالعلم والذكر والعمل الصالح، والموت الحقيقي عكس ذلك. لقد نفذت الكاتبة إلى جواهر هذه الشخصيات ، يحدوها السؤال دائما، والفضول العلمي الذي لا تلبي تعطشه إلى المعرفة إلا بدراسة مختلف جوانب حياة هؤلا ء الذين ترجمت لهم. إذ المغزى من الترجمة ليس هو مجرد تجميع المعلومات، بل استخلاص العبرة، وتعلم قيم فاضلة من خلال الا طلاع على حياة الشخصية المترجم لها . فإلى جانب العلم، التربية الإيمانية ، والوطنية، والمعرفية . وكثيرا ما تشدنا إلى ملا حظات الكاتبة وجوه المقارنة التي تعقدها بين بعض هذه الشخصيات ، كما فعلت مثلا بين مصطفى بوشعراء ومحمد حجي رحمهما الله ، أو بين محمد حصار وسعيد حجي رحمهما الله . وإذا كانت الباحثة د. نجاة المريني قد أنفقت من عمرها سنين طويلة في دراسة التراث الأدبي المغربي دراسة أكاديمية، فإنها في تراجمها العلمية أديبة بليغة تتميز كتابتها بالعبارة الشاعرية الصادقة حين يكون المقام مؤثرا تأثيرا عاطفيا، وبالصفاء الأسلوبي العلمي حين يكون المقام مستدعيا لسرد أوتحليل أو ملا حظات تاريخية وعلمية . و هي في كلتا الحالتين تتحف القراء بنصوص مفيدة ممتعة، مؤثرة مربية ، مؤرخة منوهة. وعلى هذا المنوال ترجمت لشخصيات نذكر منها سعيد حجي ومحمد حصار وعلا ل الفاسي وعبد الكريم غلاب وأحمد رمزي وأبو القاسم محمد كرو وعبد الحق المريني ووالدتها السعدية زنيبر، ومحمد حجي ومحمد عواد وعبد الرحمان الحريشي ومصطفى بوشعراء وقاسم الزهيري ومحمد بن أحمد اشماعو ومحمد الريسوني وثريا النخلي . والكتاب - إلى ذلك- غني بمعلومات ربما لن يجدها القارئ في مصدر آخر بحكم ما استقته المؤلفة من معرفتها الخاصة بكثير من هؤلاء الأعلام. ومسك الختام هذان البيتان اللذان يسجلان المغزى العميق لهذا الكتاب ياذا الذي ولدتك أمك باكيا والناس حولك يضحكون سرورا احرص على عمل تكون به متى يبكون حولك ضاحكا مسرورا