افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليوم الخميس 30 ماي 2024 لا تجدُ هذه الأيام إلا من يعبِّر عن التوتُّر، ولا عجب فالجميع يُهرول بأوراق إدارية بحثا عن مؤشر، كيف لا وقد اتّسعت في البلد الهُوة سحيقا بين طبقتين وما من مدَد، طبقة تتردّى بفقرها المُدقع في الدّرك الأسْفل، وأخرى في أبراج الثّراء تنْعَم بالذهب الأسود والأصفر والحُلل ! هل أنت أيضاً مُتوتر وفي حاجة مَمْسوسة لمُؤشر، هل تجمع الأوراق الإجتماعية الكفيلة بإثبات أنك تعاني من إملاق، يا أ الله.. أي زمان هذا يُهان فيه المواطن ليثبت أنّه فقير، أمَا كان الأجدر إحصاء ما ليس بحاجة لإفشاء دون فضائح، ألا تكفي مؤشرات المؤسسات الإقتصادية العالمية بتقاريرها السوداء، برهانا دامغا أن الوضعية الاجتماعية للمواطن في تدهور منذ عقود، ومع ذلك فالحكومة لا يُعْجِزها أن تُعْجِز المواطن المقهور، وتطالبه باستخراج مؤشر ولو كان ثاوياً في المصران الغليظ، ولا أعجب إلا مِمّن ما زال يملك أعصابا بكمية كافية تساعده على التوتر ! حقّا إن الهَمَّ يُورَّث تماما كالدِّرهم، وما نعيشه اليوم من شطط اقتصادي، هو نتيجة سوط تناقلته أيادي حكوماتنا بين سابقة ولاحقة، ويا له من مشعل يبعثُ على الفَخَار، وهل ننسى تلك الوزيرة سامحها الله، حين صرّحت أن من يُصوِّر 20 درهما (أقل من دولارين) في اليوم، ليس بالمواطن الفقير، كيف إذاً يمكن أن نتعرَّف على الفقر ولا يبقى بأسماله غريباً في ديارنا، ألمْ تر أن أعْتى خبرائنا الاقتصاديين وأنْزَه وزرائنا الحكوميين، حاروا في تحديد مؤشراته البادية على العرْيان؟ حقّا أنا نفسي أُضِيف حيرتي إلى حيرة المسؤولين كيف نعرف الفقير من غيره، ربما يُجْدينا الطبيب مِجسّاً، فنعرف الفقير من نبض قلبه الذي يكون غالبا ضعيفا بسبب سوء التغذية، يا إلهي ما الفقر في بلدي؟ هل هو المُجرم دون بصماتٍ، الكافر بدون مِلَّة أو دين، السَّاري بيننا مُسْتتراً خائفاً على نفسه، وكيف لا يخاف وقد سمع أحد الخلفاء الراشدين يقول: لو كان الفقر رجلا لقتلتُه..؟ يصْعبُ مع أقْنعة البطالة المُتعدِّدة في أوجهها بالبؤس، أن نتعرَّف على الفقر، فهو وإنْ كان ظاهرا، لا يفتأُ يَمدُّ لك اليد في كل شارع ليس مُصافحاً طبعا و لكن تسوُّلا، إلا أنّه يبقى غابرا في كل الخُطب الحكومية المُزيِّفة للواقع، فهي لا تني تُفنِّدُ وجوده الذي يَعْدمُنا بمشاريع لا تهُمُّ أحدا ما دامت لا تصل للجيوب، الأجدر رصد الملايير المتدحرجة بالأصفار، للنهوض بالقُدرة الشرائية للمواطن، وإنقاذ الطبقة المتوسطة من انهيارها الإجتماعي المريع، ذلك سيكون أجْدى وأنفع، عِوض السَّعي خلف منجزات تجعلنا في الواجهة الديمقراطية برَّاقين لا نلوي إلا على السَّراب..! أظن أنَّ التوتر ما زال يعْتريك بحثاً عن مؤشر، عليك إذاً ببعض المقاربات غير البعيدة نظريا وأكاديميا عن إقحام الفقْر في حِصَص الدَّرس، هو أيضا قد تشِيع أمِّيته بالجهل حتى في أوساط بعض وزرائنا، أما أبلغ تعريفٍ فهو القول إنَّ الفقير من الوِجْهة الفلسفية وحتى الفُلوسية عدَمٌ، بينما الغني وجودٌ يحتكر الحياة، ومن الناحية الإجتماعية يعتبر مواطنا يعيش ميِّتاً، بينما الفقير في شِقِّه المتعلق بأذني القُفة، فأُوجِزه في الحوارية التي تألَّفت بين الكاتب الساخر برنارد شو والرئيس تشرشل الذي قال وهو يتمايل بجثته الضخمة: "من يراك يا أخي برنار (وكان نحيلا جدا)، يظن أن بلادنا تعاني أزمة اقتصادية حادة، أزمة جوع خانقة"، فأجابه برناردشو: "ومن يراك يا صاحبي، يدرك فوراً سبب الأزمة"! هنيئا لكل مُتوتِّر وجد المُؤشِّر، سينال نظير إثباته برزمة السِّجِلات والعُقود أنه كادح، عشرين درهما في اليوم، ولا غرابة، فهي أسطوانة مشروخة كانت قدْ غنتها وزيرة سابقة، ولم تجد الحكومة الحالية حرجا في الرقص على أنغامها بالتطبيق، وبذلك فالمؤشر يعطي الحق للمُعْدَم في الحصول على 600 درهم شهريا، وهو مبلغ كافٍ مع بعض البخور، ليُغطِّي مصاريف الأبناء من حيث المدرسة والمأكل والمشرب والملبس، وفواتير الضو والما وما تكتنفه من إتاوات مدسوسة، علْما أن الفقير منشغل بتدبير خبزه الحافي عن التفرج في التلفزيون ولا يصنع أزبالا حتى يدفع ضريبتها، كل هذا العيش الكريم لا يحتاج إلا عشرين درهما في اليوم، عِلما أنَّ الكلب في الشارع يعيش بأكثر من هذه الملاليم، وشتّان بين إنسان أعزّه الله وحيوان لا يرفع عقيرته إلا بالنُّباح ! الفقر ليس عاراً، ولكن العار أن نُكرِّسه بثمن يسْتبخِس العيش الكريم للمواطن، أن تُعالجه الحكومات المُتعاقبة بطُرق تعجيزية، ولا أعجب إلا ممن ما زال يبحث عن مؤشر !