وثيقة 11 يناير هي أبعد ما يكون عن مجرد وثيقة مطالبات نخبة مدنية من الوطنيين الأفذاذ بتحقيق استقلال البلاد، في لحظة تاريخية اندمج فيها حزبان قويان لتأسيس حزب الاستقلال، الذي كان يعد بحق، حزب الأمة المغربية المطالبة بالتحرر من ربقة الوصاية والحجر. ولا اقتناصا تكتيكيا ذكيا للحظة تاريخية دراماتيكية أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية بانتصار الحلفاء على دول المحور وما تلاها من هبوب عاصف لرياح الحرية والاستقلال في العالم. إنها فوق ذلك وذاك، تعتبر بمثابة المادة الرمادية التي تنعش العقل الاستراتيجي للدولة والأمة المغربية، وإطارها المتين الذي أرسى دعائم الوعي العميق للدولة المغربية منذ فجر الاستقلال إلى اليوم. لم تأت معزولة عن سياقات عاصفة أنتجتها، في مرحلة كانت الحرب العالمية الثانية قريبة من الحسم، وبدا جليا أن عالم ما بعدها سيكون مختلفا عن سابقه، مع أفول جغرافيات ودول وشروق أخرى، وكان وعي النخبة المغربية الوطنية حادا بحيث أدركت مدى عمق المرحلة، حتى إنها استطاعت توجيه السفينة المغربية نحو شاطئ الأمان، في محيط متقلب ومتلاطم، بأقل الخسائر الممكنة. كما إنها تعد نتاج مخاض عنيف عاشه المغرب، منذ سقوط نظامه التقليدي المهلهل في أيدي الأطماع الاستعمارية لتقطع أوصاله بين إسبانيا وفرنسا، في سيناريو يعد امتدادا للعصور الوسطى، رغم شعارات المد الكولونيالي البراقة، التي حاولت إخفاء بشاعتها تحت مساحيق الحماية والتحديث، كيف لا، والنخب الوطنية المغربية، منذ البدايات الأولى للقرن العشرين، كانت واعية تماما بهذه الأجندات ومستعدة لكافة المآلات، ولكنها كانت عاجزة عن إيقاف زحفها الكاسح، جراء عديد العوامل والأسباب. وللاستدلال على الوعي المتقدم الذي كانت الوطنية المغربية تمتلكه، وقراءتها لما كان يعتمل من أحداث وما كان يدبر من مؤامرات، فإن المغاربة أدركوا مبكرا ضرورة التسريع بإجراء إصلاحات عميقة في نظامهم السياسي والاقتصادي والعسكري، تجلى ذلك في المحاولات الجدية الأولى التي قام بها السلطان الحسن الأول خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن التاسع عشر، وأيضا المحاولات الجنينية الأولى للإصلاح من خلال مشروع دستور سنة 1908، على عهد السلطان المولى عبد العزيز. ومع التئام قادة الحركة الوطنية من مختلف ربوع البلاد حول وثيقة المطالبة بالاستقلال، تبدى واضحا أن زمنين باتا يفصلان المغرب، زمن الاكتفاء بدعاوى خجولة لإصلاح نظام الحماية يفتح هامشا ضئيلا للمغاربة في المشاركة السياسية وإصدار الصحف وممارسة حرياتهم الجمعوية والنقابية ضمن نظام الحماية الاستعماري، وزمن يفتح الباب واسعا أمام إعلاء كلمة الاستقلال التام وإخراج الأجنبي من كل مفاصل الدولة. كما حققت هذه الوثيقة ما كان محالا في وقت ما، وذلك بفضل حكمة القيادة الوطنية وحنكتها ومراسها الكبير، وذلك بدمج كل الهيئات الوطنية والمستقلة حينها، كما صرح بذلك الرئيس علال الفاسي في إحدى خطبه المذاعة بمناسبة مرور 11 سنة على تقديم الوثيقة المذكورة على أمواج راديو العرب، بالقول: "أصبحت الأمة المغربية مقتنعة عن بكرة أبيها أنه لا يمكن أن يتحقق أي إصلاح مهما كان جزئيا، إلا بعد الاستقلال، وقيام حكومة وطنية لا رقيب عليها إلا الشعب، ولا مسير لها إلا وحي الأمة والرغبة في تحقيق أهدافها، وحيث أن الحركة الوطنية هي التعبير الصادق عن إرادة الشعب المغربي، فقد تقدمت للميدان، ودعت إلى وحدة الصفوف، وجمع الأمة على كلمة سواء هي الاستقلال التام، وبعد مؤتمر ضم كل الهيئات الوطنية والمستقلة، حررت وثيقة الاستقلال".
ويمكن القول بدون مبالغة، أن راهنية وثيقة 11 يناير واحتفاظها بنفس الوهج والقوة رغم مضي الأحقاب والسنين، وتوالي الأحداث والتغيرات، لا تأتي فقط من توحيد المغاربة تحت راية المطالبة بالاستقلال، بل لكونها تتضمن غايات أبعد وأهداف أعلى، وفي مقدمتها نمط النظام الذي يلتزم المغاربة باعتماده ما بعد التحرر، وهو النظام الذي لن يكون إلا ديمقراطيا تعود الكلمة الفصل فيه للشعب. وفي ذلك يسترسل الزعيم علال الفاسي بالقول: «إن هذه النخبة التي تزداد كل يوم اتساعا، وتملك كل يوم قوة أعظم مما كان لها، هي التي يناط بها استقلال المغرب، وهي التي تصنع وتبني لا عن طريق الإصلاح والسعي، ولكن عن طريق وضع الأسس، وإقامة الأعمدة، ورفع صروح المجد". وفعلا، ومع التباشير الأولى لفجر الحرية والاستقلال، نهجت الدولة المغربية سبيل الديمقراطية كاختيار لا محيد عنه، فلم تقع مثل غيرها من دول العالمين العربي والإسلامي ومعها كل دول العالم الثالث تحت قبضة النظام الواحد والحزب الواحد، بل إن حزب الاستقلال نفسه، حارب فكرة الحزب الوحيد والرأي الوحيد، فكان ظهير 1958 المؤطر لحرية تأسيس الجمعيات والصحف، والذي جنب البلاد مغبة السقوط في براثن الدكتاتورية والتسلط في الحكم، رغم كل مد أو جزر، وهو ما أكده جلالة الملك محمد السادس في أول خطاب له إثر اعتلائه العرش، مؤكدا الاختيار الديمقراطي كخيار استراتيجي للبلاد لا محيد عنه ولا رجعة فيه. إن وثيقة 11 يناير جوهر الفكرة الوطنية، النابعة من معين الفكرة الاستقلالية، تعد نظاما إيديولوجيا متكاملا ترعرعت على أفكاره وثوابته ومسلماته أجيال بكاملها، وهي إلى اليوم لم تزل نابضة حية ويانعة، وتمثل عمق الدولة المغربية ككل لا تعبيرا ضيقا عن حزب أو جماعة او حساسية وحسب، ولنتأمل ما كان قد خطه الزعيم الفذ علال الفاسي في معرض رسالة جوابية للمرحوم محمد العربي المساري كتبها له في 9 يونيو 1964 في محاولة منه لإفهامه معنى الفكرة الاستقلالية واتساعها وانفلاتها العصي عن أي توصيف فئوي ضيق: "لقد بدأ الحزب بمرحلة التوعية، ثم الاستقلال، ثم التحرر من الجيوش والقواعد الأجنبية، ومحاولة توعية الجميع بالحدود والصحراء، هذا من جهة، أما الناحية الاجتماعية فلم يغفل عنها قط، ولو رجعت إلى دفتر المطالب المغربية التي رفعناها للملك وللفرنسيين سنة 1933، لرأيت نواة الأفكار التي تدافع عنها، وتحسب أنها رصيدك، وحقا إنها رصيدك..". ثم يقول مسترسلا في نفس الرسالة: "لو جاء حاكم ظالم فعصف بالأحزاب ومحا اسم حزب الاستقلال من الوجود المغربي، لبقيت الأمة مطبوعة وإلى أمد بعيد بالتعاليم والتربية التي غرسها حزب الاستقلال".