تتصف العلاقات الأمريكية، الأوروبية في الظروف الحالية الصعبة التي يجتازها العالم بصفات متضاربة، وتقدم نفسها للرأي العام الدولي بمستويات مختلفة متناقضة، فهي من جهة علاقات منسجمة ومتفاهمة ومتفقة على كل التفاصيل المتعلقة بالحرب الروسية الأوكرانية، في إطار تنسيق يكاد يكون غير مسبوق في مواجهة الأزمات التي تعرض لها العالم طوال الحقبة الماضية، يتسم بالسخاء الكبير فيما يخص توفير المال والعتاد لضمان كسب رهان حرب تخوضها دولة جارة للعدو التقليدي للغرب بالوكالة، وهو تنسيق يؤشر على اتفاق الطرفين، الأوروبي والأمريكي على إدراك حجم وتكلفة تداعيات هذه الحرب، ليس فقط على الأوضاع المستقبلية داخل القارة العجوز، التي تجري هذه الحرب في عمقها الشرقي، وما يمثله انتصار روسي محتمل على مصير القارة الأوربية، بل أيضا على طبيعة النظام العالمي برمته، الذي يخضع إلى قطبية أحادية مفرطة، أطلقت أيادي قوة واحدة في تقرير مصائر الدول والشعوب، وقطبية قبلت فيها دول القارة الأوروبية بدور الموالي للقرارات المتخذة خارج عواصم دولها. لذلك كله وغيره كثير، يجد المراقبون والمحللون والمختصون أكثر من تبرير، ولا نقول تفسير، لوضعية الاتفاق التام والكامل الحاصل بين الولاياتالمتحدةالأمريكية والدول الأوروبية على كسر عظام الدب الروسي في أوكرانيا، ليس دفاعا عن أوكرانيا، كبلد من بين دول كثيرة في العالم تعرضت إلى هجومات عسكرية خارجية، أوفرضت عليها حروب معينة، أو استهدفها عدوان خارجي، ولكن تحديدا لأنها الفرصة المناسبة، التي كانت الولاياتالمتحدةالأمريكية بالتحديد، تنتظرها طيلة مدة لتصفية حسابات قديمة وجديدة ، استراتيجية واقتصادية وسياسية وعسكرية، مع غريم تقليدي تسبب لها في كثير من العراقيل و الصعوبات، في سبيل بسط نفوذها الكامل على النظام العالمي، ولم تملك الدول الأوروبية في كل ما يحدث غير الاصطفاف إلى جانب واشنطن في عملية كسر العظام الجارية بين القوتين التقليديتين .
هذا وجه واحد من وجهي عملة العلاقات الأمريكية، الأوروبية، بينما يبدو الوجه الآخر من العملة مختلفا تماما، حيث يظهر الحليفان المتماسكان في الحرب الروسية الأوكرانية مختلفين ومتباعدين، بل ولم يعد الحديث عن بداية حالة تمرد أوروبي على بلاد العم سام خافيا على أحد، بعدما ضاقت الدول الأوربية ذرعا من سياسة الولاياتالمتحدةالأمريكية في المجال الاقتصادي، التي تبدو لها معادية لمصالح الدول والشعوب الأوروبية.
حكومات الدول الأوربية التي وقعت للولايات المتحدةالأمريكية شيكات على بياض لكبح جماح الغريم التقليدي، الذي يشكل خطرا دائما على بنية النظام العالمي التقليدي السائد، تفاجأت بسياسة حليفها فيما يتعلق بمواجهة تداعيات الحرب التي يتفقان على حتمية الانتصار فيها، ولم تخف انزعاجها من قانون مكافحة التضخم الذي أقرته السلطات الأمريكية المختصة، وشرع البيت الأبيض في تنفيذ مقتضياته، والمتعلق بمكافحة التضخم في الاقتصاد الأمريكي الذي زادت وتيرته سرعة بسبب الحرب في أوكرانيا، واعتبرت ما أقدمت عليه الإدارة الأمريكية من جهة، يضر بقوة بمصالح الشركات الأوربية التي تمارس أنشطتها الاقتصادية والتجارية، والتي ستضعف قوتها التنافسية أمام نظيراتها الأمريكية، التي تحظى، تنفيذا لقانون التصدي للتضخم في الولاياتالمتحدةالأمريكية، بامتيازات جبائية هائلة و دعم مالي سخي لمواجهة الارتفاعات المهولة في أسعار المحروقات في الأسواق الدولية، وأيضا للتخفيف من أعباء ارتفاع أسعار كثير من المواد الأساسية الأخرى.
وترى كثير من الدول الأوربية أن السياسة الأمريكيةالجديدة في المجال الاقتصادي، الهدف منها إغراء الشركات الأوروبية نفسها بالهجرة من القارة الأوربية إلى التراب الأمريكي لتستفيد مما تنعم به الشركات هناك، ولهذا السبب لم يخف العديد من القادة الأوروبيين امتعاضهم من السياسة الأمريكية الحمائية الجديدة ، و لم يترددوا في تصعيد لهجتهم ضد ما أقدمت عليه الإدارة الأمريكية، بل وبعض منهم هدد صراحة بطرح ملف هذا الخلاف على أنظار منظمة التجارة العالمية، لأن التدابير الأمريكيةالجديدة تخالف قواعد التجارة العالمية، وهذا ما ينذر بتصعيد في هذا النزاع التجاري، خصوصا بعدما لم يخف المفوض الأوروبي المكلف بالسوق الداخلية، السيد بروتون تييري، في مقابلة مع أحد القنوات التلفزية تهديد الاتحاد الأوروبي بالقول " سننظر بالطبع في تدابير انتقامية "، وخصوصا أيضا بعدما ترددت عبارات (الحرب التجارية)، و(الحرب الجمركية الكبرى) على لسان أكثر من مسؤول أوروبي، كما هو الشأن بالنسبة للمستشار الألماني ووزير الاقتصاد الفرنسي وغيرهما .
هكذا إذن، طفت على سطح العلاقات الأوربية، الأمريكية، كخلافات حادة معاكسة تماما لمنهجية التنسيق والتضامن في مواجهة الحرب في أوكرانيا، ومع التأكيد على أن ملفي القضيتين منفصلان، ومن الصعب القول إن الخلافات في المستوى الاقتصادي ستمتد إلى المستوى العسكري، في الظروف الحالية الصعبة على الأقل، إلا أنها مع ذلك تلقي بظلالها على قوة ومصداقية التحالف العسكري، والذي تدفع فيه الدول الأوروبية ثمنا غاليا على المستوى الاقتصادي، بينما مكن الولاياتالمتحدة من مراكمة مكاسب مالية وتجارية وازنة.