«أينما وجدت المواد العضوية والاستفادة البيولوجية فثمة وجه الله»؛ تكاد تختزل هذه الجملة فرعا من تصور هذا الكائن الميال إلى العودة إلى الأصول الحيوانية والطبيعة للإنسان، والابتعاد عن الأكذوبة الفجة للمحرمات والطابوهات التي صنعتها الديانات والتقاليد والأعراف. إنسان عجائبي بامتياز، يجمع بين شتى تلاوين المفارقات، يذكرني بأحد متاجر مدينة قصر السوق التي كانت تحمل يافطة كتب عليها بالبنط العريض: « لا تبحثوا الكل هنا «. وبالفعل، ففيه الفقيه المبجل، والسفيه المحنك، والمحب الولهان، والمناضل الشرس، والمربي الخلوق ، والمتمرد الثائر، والمسالم المهادن، والوجه البشوش، والباحث المتزن، والناقد المشاكس ... وإذا كانت المظاهر خداعة، فإن ذلك ما ينطبق بالتمام والكمال على هذا الكائن ذي المظهر العروبي البدائي الأثيل؛ جسد دريم، وجه مسطح ميال إلى البياض،أخفش، عينان غائرتان صغيرتان مائلتان إلى السواد، محاطتان بنظارات طبية قديمة من النوع الرديء المقعر المعروف ب» قاع الكأس». سوء توزيع لشعيرات رأسه ولحيته التي تكسو مساحات وتترك أخرى، شارب صغير يغطي شفتين رقيقتين تنفتحان على ثغر كبير يحمل أسنانا تشبه أعمدة مدينة وليلي الأثرية جراء سوء التغذية وعوامل التعرية. أذقن، أخطل، قد متوسط قريب من السمنة بسبب بطنه الأبحر المشرع على كل ما يأكل ويشرب. أخبرني في إحدى مسامراتنا أنه لا يعرف قط معنى للشبع، وأنه يتوقف عن الأكل في المجامع بسبب الحياء أو العياء، أما ما دون ذلك، فهو أكول شره، قرم. نشأ يتيما بزاوية سيدي بوكيل، حفظ ما تيسر من الذكر الحكيم، وانتقل للدراسة مع أترابه في مدرسة القرية، ثم بمدن الريش، وقصر السوق، ومكناس، لينتهي به الأمر معلما بتخوم الأطلس الكبير الشرقي. عانى الأمرين خلال مشواره الدراسي بسبب الفقر والقهر والحرمان من كل شيء، بما في ذلك الجنس، نتيجة مظهره «غير اللائق» وحيائه الزائد، وتفضيل الطالبات لذوي المال والجمال. بمجرد التحاقه بالعمل، شرع بجد في ممارسة «تاقرفيت» أو الحب البارد المؤدي إلى الزواج. وهو ما حصل، حيث اقترن بإحدى المحصنات التي استطاعت إيقاعه في شرك حبها، مستميلة قلبه من أول محاولة. عاش في البداية حياة مستقرة عرف فيها حدا أدنى من إشباع البطن والفرج، لكن سرعان ما بدأت تظهر على سلوكا ته وأخلاقياته نزعات أخرى أقرب إلى التمرد والعصيان والثورة الهادئة، إذ سرعان ما وضع كل المسلمات قيد التشكيك والمساءلة. وهو ما قاده في البداية إلى دخول غمار النضال السياسي اليساري بحمأة الشباب وعنفوانه، حتى صار مثالا وقدوة لتقدميي قبائل أيت حديدو، وأيت ازدي، فترتبت عن ذلك اصطدامات ومواجهات مع السلطة وأذنابها. ظل صامدا مناضلا بقلمه ولسانه إلى أن أعياه المسير، وصدم في مواقف الرفاق الذين تحولوا إلى انتهازيين ومتملقين ووصوليين. تألم عميقا لهذا التحول المفاجئ الذي لم يكن في الحسبان، والذي بعثر كل أحلامه وآماله، وزرع الشك في كل معتقداته ويقينياته التي كافح من أجلها باستماتة وسخاء كبيرين. دفعته هذه الصدمة الفجة إلى إعادة النظر في كل تفاصيل حياته وترتيب أولوياته، فكان أن اختار البحث العلمي الأنثروبولوجي طريقا لبلوغ أعماق الذات وكنه الهوية. بدأ الحفر والتنقيب في مواضيع التراث المرتبط بثقافة الدم، والفحش المقدس، والزواج العشائري، والمرأة المقيدة، وطقوس العرس، والختان وأحيدوس ... فأفلح في فض بكارة مواضيع جديدة. ومن أجل تعميق بحثه، انتقل إلى إملشيل واستقر هناك لسنوات طوال عايش خلالها فروع قبائل أيت حديدو، واحتك بهم في كل جزيئات حياتهم. وهو ما مكنه من وضع تصور تقريبي علمي في كتاباته عن هذه القبائل الأمازيغية البدائية، بعيدا عن الكليشيهات الفلكلورية الفنتازية الملتصقة بها . كلما سألته عن بعض سلوكاته الطبيعية البدائية في المأكل والملبس والحديث إلا ويجيب بأنه مظهر من مظاهر التخلف، إلى حد أنني صرت أنعته ب «المتخلف». وهو لقب لا يجد فيه أدنى غضاضة. وعن سبب هذه السلوكات التي قد تبدو للبعض غريبة، أجابني في إحدى المناسبات أنه ولأسابيع رمضانية طويلة كان يشرب حليب الحمير الذي كانت تبيعه إياه جارته. ولم ينتبه للأمر إلا عشية ليلة القدر عندما دخل زريبة المرأة التي لم يجد بها لا معزة ولا بقرة، بل فقط حمارة، وبجانبها مولود صغير جدا لم يتعد الشهر، وهو بالمناسبة أخ المتخلف في الرضاعة ! رضع لحسن إذن حليب الحمارة، ومعه سلوك الصبر والتجلد، لكنه لم ينصع للانقياد والطاعة. اشتغل لسنوات مراسلا لجريدة أنوال، جريدة اليسار الجديد، 23 مارس، ومنظمة العمل الديمقراطي الشعبي. وبعد سلسلة من المقالات التي كان يبعث بها، وتنشر لتوها على صفحات هذه الجريدة المناضلة، صار»المتخلف» اسما مشهورا، فدعاه رئيس التحرير لاجتماع خاص بمقر الجريدة. امتطى الحافلة التي أقلته من مدينة الريش إلى البيضاء، وكان الفصل شتاء، لذلك لبس جلبابه الصوفي الأمازيغي المطرز، واضعا طاقية تغطي أذنيه ، وحذاء من النوع الرديء. دخل الباب بدون استئذان، وإذا بالكاتبة تصاب بالفزع من هول ما رأته ! حاول طمأنتها مقدما نفسه إليها باعتباره مراسلا للجريدة، ومدليا بالدعوة الموجهة إليه. حينها فقط هدأ روعها، لكنها بدأت تبحلق وتتفحص تفاصيله من الأعلى إلى الأسفل مرددة «أنت هو فلان؟...صحيح أنت هو فلان؟ ! لم يخطر ببالها أن مثل هذا الكائن الغرائبي يمكنه أن يكون كاتبا صحفيا، فقد خيب أفق انتظارها لأنها كانت قد رسمت له في مخيلتها صورة نمطية شبيهة بصحافيي الرباطوالبيضاء المتماثلين حد التطابق في مظهرهم الخارجي، ولم يخطر ببالها أن أبناء المغرب العميق يختلفون في كل شيء عن أبناء المركز الذي تعيش فيه. وبسرعة كبيرة اطمأنت الكاتبة للحسن، واستأنست بحديثه الذي جلى به عن نفسه، فشعرت بصدق هذا الرجل وإنسيته، وعدم تكلفه، وبساطته. وهي قيم قلما يجود بها هذا الزمن. جالس المتخلف كبار السادة، ورجال السلطة، والحقوقيين، واشتغل معهم في ملفات معقدة من قبيل الاختطاف والنفي، وجبر الضرر الجماعي... وظل دائما في الموعد بجديته، ومثابرته وعمله الدؤوب، وفعاليته. خدوم، مستعد لتقديم كل معارفه ومعلوماته بلا تردد في كل المنتديات والندوات والمحاضرات، رافعا شعار:» أجب من دعاك « بدون تحيز ولا خلفيات. شكلت علب السردين الرخيص، و» البورجواجي «، و»المونادا» أكلته المفضلة. فحتى اليوم، غالبا ما يفاجئنا ونحن جلوس بالمقهى بمد يده في محفظته التي تحمل مآرب أخرى، مخرجا كيسا بلاستيكيا يحوي سردينا وخبزا، طالبا من النادل مناولته قارورة كوكا كولا. يشرع في الأكل بعد عرض اقتسام وجبته الدسمة على كل المتحلقين حول الطاولة، وغالبا ما يقابل عرضه بالشكر والاعتذار. تتساقط بعض جزيئات الخبز والسردين، ويسيل بعض الزيت على ذقنه، لكنه لا يعبأ بذلك، بل يتلذذ. وبما أن قواطعه لم تعد تسعفه في قضم الخبز، فإنه يستعمل يديه في تسهيل العملية، ممزقا الخبز شر ممزق بأشكال هندسية غاية في القبح والبشاعة. ولا يشرب الصودا إلا بعد استقرار آخر شدق في معدته. صار أكل المتخلف طقسا له خصوصياته ومقوماته. فطيلة السنوات التي قضاها بإملشيل، لم يسبق له قط أن غسل «المرميطة» أو صحون الأكل لسبب بسيط في نظره، وهو شدة البرد التي تمنع ظهور الجراثيم والميكروبات. بل إنه كان سببا في مداواة مجموعة من المعلمات والمعلمين من أبناء المدن الملتحقين بإملشيل، حيث تعرضوا لمرض الإسهال بسبب تغير الماء والجو. فكان أن اقترح عليهم ترياقا متمثلا في قلة النظافة في كل شيء، حتى تستأنس أجسادهم وتتأقلم مع طبيعة إملشيل . والملفت للانتباه أن وصفاته الغريبة عادة ما تعطي أكلها. سمعت منه ذات مرة أن أسعد أيام حياته هي التي يستفيق فيها بعد النوم وقد تبول على فراشه. وهو في نظره حدث يشي بالتحرر والانفلات ولو مرحليا ولا شعوريا من كل القيود والاكراهات الاجتماعية والنفسية بشتى تلاوينها. يفرح بكل شيء حتى وإن كان بسيطا جدا. فهو قد يشعر بالغبطة والسرور إذا تلقى من أحد قلما جافا كهدية، أو كأس شاي...فقد علمت منه أن اليتم المبكر، والفقر المدقع، والعيش في الزاوية يجعل صاحبه ينشأ على هذا الطبع، ويسعد بأي أعطية. يعيش دائما صراعا مريرا جراء المفارقات التي تكتنزه. اشتغل إماما خطيبا بأحد القصور، فشعر بقوة وحلاوة الإيمان، تبحر في قراءة كتب التصوف التي أحبها، لكنه بمجرد انفتاحه على تيارات الحداثة وفلاسفتها، بدأ يخبو إيمانه، ويفل شيئا فشيئا ، لكن سرعان ما عاد التوازن إلى نفسيته، فجمع بين « الحج وفاطمة». ورغم تخلفه ومظهره العروبي، و بالنظر إلى احتكاكه الدائم والمتواصل بالعمل الجمعوي، وانخراطه في البحث العلمي الأنثروبولوجي، فإن ذلك استوجب امتلاكه لناصية التكنولوجيا، عبر اقتنائه لحاسوب محمول، وتمكنه من توثيق كل أبحاثه، وتقديم مداخلاته عن طريق تقنية « البوربوانت « ! هكذا إذن يعيش هذا المتخلف الحداثي المتفرد في كل شيء ،غمار الحياة بتناقضاتها، مشكلا نموذجا استثنائيا خاصا مهددا بالانقراض. لذلك أضحى من أوجب واجبات محبيه من المثقفين، والساسة، والحقوقيين، والناس أجمعين، تكوين لوبي للضغط على الأممالمتحدة في اتجاه استصدار قرار يعتبر «المتخلف» بموجبه تراثا إنسانيا عالميا يجب حفظه وصيانته من الانقراض والتلف.