جلّت لنا آيات بيّنات من سورة «الفرقان» - بها خُتمت السورة - صفات عباد الرحمان لتكون نبراساً لنا في الحياة على درب الإيمان والعمل الصالح والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى. واشتملت هذه الباقة الكريمة من الآيات على أربعة مواضع عن الدّعاء إما بصيغة الطلب والنداء، أو ببيان ضرورة الدعاء وفضله وتخصيص الله وحده به. ولنقرأ، في البدء، هذه الآيات: «وعباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما. والذين يبيتون لربّهم سجدا وقياما. والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما. إنها ساءت مستقرا ومقاما. والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يُقتروا وكان بين ذلك قواما. والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرّم الله إلا بالحق ولا يزنون. ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات. وكان الله غفورا رحيما. ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا. والذين لا يشهدون الزّور وإذا مرّوا باللغو مرّوا كراما. والذين إذا ذكّروا بآيات ربهم لم يخرّوا عليها صما وعمياناً. والذين يقولون ربّنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرّة أعين واجعلنا للمتقين إماماً. أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويُلقّون فيها تحية وسلاما خالدين فيها. حَسُنت مستقرا ومُقاما. قل ما يعبؤا بكم ربّي لولا دعاؤكم. فقد كذبتم فسوف يكون لزاما» [الفرقان: 77/63]. أوّل صفات عباد الرحمان في هذه الآيات التواضع وخفض الجناح والتؤدة مع السماحة والعفو والترفع عن سفاسف الأمور، وعدم مقابلة السيئة بمثلها، بل الصفح والدفع بالتي هي أحسن، وذلك لأن ما شغلهم من أمور الدّين وحقيقة الآخرة ولقاء الله تعالى لم يدع لهم وقتا ولا اهتماما بشواغل وعوائق ومضايقات السفهاء الجاهلين، فضلا عن أنهم مطبوعون على العفو والتجاوز رجاء أن يعفو الله عنهم ويتجاوز. هذه بعض صفاتهم التي تتجلى في النهار غالبا عند مخالطتهم الناس. فإذا أرخى الليل سدوله، وخلوا بربّهم باتوا له سجدا وقياما. وذلك مستراح العارفين، وعظيم لذة المحبين. وكان من دعائهم في قيامهم وسجودهم بالليل، وفي صلاتهم ومناجاتهم خلال النهار الاستعاذة بالله من عذاب جهنم الذي يلزم المعذّب به لزوم الدَّائن للمدين. وكثيرة هي الآيات التي قرن الله تعالى فيها بين الصلاة والزكاة سواء وجوبا أو تطوّعا. وفي هذه الآيات من سورة «الفرقان» جاء ذكر الإنفاق في سبيل الله صفةً من صفات عباد الرّحمان، بعد الحديث عن التزامهم بالصلاة والسجود والقيام. وهم في إنفاقهم بين بين. أي على نهج وسط بين الإسراف أو التبذير والتقتير أو التقصير في الصّدقات. ومن أهم صفاتهم أيضا التوحيد بنوعيه: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية. فإذا سألوا لم يسألوا إلا الله، وإذا استعانوا لم يستعينوا بأحد سواه. وهذه صفة تثمرها قوّة اليقين والتوكّل والثّقة بالله تعالى. وعباد الرّحمان أبعد النّاس عن الظلم بكل أنواعه، فهم يحترمون حقوق النفس، والمال، والعِرض، «لا يقتلون النفس التي حرّم الله إلا بالحق ولا يزنون. ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات. وكان الله غفورا رحيما. ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متاباً». هذه الآيات - على سبيل الاستطراد الجامع المانع النافع - بيّنت جزاء من لم يحترم تلك الحقوق الإنسانية، وبينت، في نفس الوقت، أن باب التوبة مفتوح، شريطة أن تكون هذه التوبة توبة نصوحا (ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا). وبالإضافة إلى الصفات الجميلة السابقة، يتصف عباد الرّحمان بالصّدق في كل أمورهم ومن ذلك عدم شهادتهم الزّور. هذه الشهادة التي تعتبر من أكبر الموبقات وأخطر الكبائر. وهم (إذا مرّوا باللغو مرّوا كِرَاماً)، لا يلتفتون إلى ما فيه مضيعة للوقت، وهدر للجهد، واشتغال بالتفاهات. فالأمر - عندهم - جدّ، قد أخذوا الكتاب بقوّة، ولمحوا ما وراء غشاوة الدنيا من نبأ عظيم، وشأن خطير. قلوبهم يقظة، وأرواحهم متشوّقة، لم تشغلهم زينة الحياة الدنيا عمّا هو آت قريب، ولم يغترّوا بلذّات زائلة تنسيهم الوعد والوعيد. بل يذكرون الله في كل حين، ويستحضرون لقاءه في كل حال. وهذا القرآن العظيم بين أيديهم، وفي صدورهم، يفتح بصائرهم، فيصغون إلى آياته تُتلى بوعي وقلب حاضر: (والذين إذا ذكّروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صمّا وعميانا). ومن دعاء عباد الرّحمان، بل من أروع مناجاتهم وأجمل ما يسألون الله أن يهبهم الحياة الأسرية الطيّبة النديّة الهنيّة: زوجة إذا نظر إليها زوجها سرَّته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته. هذه هي المرأة الصالحة التي ترضي ربّها بطاعة زوجها في المعروف، والحفاظ على نعمة الرّابطة القدسية التي تربطها به. ولا تكمل النّعمة وتتم إلا بالذرية الطيبة، التي تكون بارّة بالوالدين، صالحة، مصلِحة، مُرضية لله ورسوله. ولا شك أنّ هذا ما تقرّبه الأعين، فرحاً بنعمة الله الوهاب، فتنطلق الألسنة بالشكر، وتتفجر من القُلوب فيوض الحبّ. لكن ذروة تمام النّعم، وكمال المواهب، الإمامة في الدّين إذ فيها فضل إلهي ديني عظيم، يضاف إلى فضل الله الدنيوي الذي تحدّثنا عنه منذ قليل. ولذلك ربط عباد الرّحمان بين النّعمتين، ليفوزوا بخيري الدّارين، وينالوا الفرح الدّائم، وذلك الفرح هو الذي صوّرت لنا هذه الآية بعض مشاهده ونعيمه الخالد: «أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويُلقّون فيها تحية وسلاما خالدين فيها. حسُنت مستقرا ومقاما». ولما كان الدعاء مخ العبادة ومحله من الدّين، ومن الحياة، محلّ القلب من الجسد، بحيث لا يستغني عنه العبد أبدا سواء في الرخاء أو الشدة، قال الله تعالى مخاطبا نبيّه صلى الله عليه وسلم، وملقّنا إياه ما يبيّنه لقومه وللناس أجمعين (قل ما يعبؤا بكم ربي لولا دعاءكم. فقد كذبتم فسوف يكون لزاما). فالله سبحانه هو الغني ونحن الفقراء. ومن صفات الغني الغنى المطلق ألاّ يكون محتاجا لشيء أو لأحد، فيحابي أو يٌراعي أو يهتم بشأن أحد لحاجة يحتاجها منه. كيف وهو الغنيّ عن العالمين؟! بل الذي حاجته، وفقره وصفان لا زمان له هو الإنسان الذي منه الدّعاء ومن الله الإجابة رحمةً به ولطفا. (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد) (فاطر: 15). بتلكم الصفات العظيمة التي منحها الله تعالى لهؤلاء المؤمنين نالوا تلك النّسبة الكريمة إلى اسم الله سبحانه فهم في كنفه ورعايته، وقد شرفهم بأن جعلهم «عباد الرحمان». وأيّ تشريف أجلّ وأجمل من أن يكون الإنسان عبداً للرّحمان؟! تلكم العبودية الخاصة التي بيّنت الآيات السابقة سماتها وشمائلها.