دعوته ذات يوم لحضور حفل بسيط نظمته بمناسبة نجاحي، كل المدعوين كانوا هناك، وعلى المائدة شاي وقهوة وحلويات ورغيف و»كيك»، وكان هو نشيطا خلال الحفل وضحكاته تملأ المكان، يشرب الشاي، ويوزع الحلوى على الأصدقاء ويخدمهم، هكذا كان... لم ألاحظ قط أنه لم يتناول أي شيء غير الشاي، وأكاد أجزم أن أحدا من المدعوين لم يعلم بذلك، ولم أعلم بالأمر إلا عندما زرته ذات يوم بالمنزل فوجدته يتناول خبزا مصنوعا بدقيق الذرة، وبعد أخذ ورد في الحديث عرفته أنه يعاني من مرض علاجه الوحيد هو اعتماد نظام غذائي خال من المواد المصنوعة بالقمح والشعير... أعراض مرضية، والجلوتين في قفص الاتهام ولنكن أكثر دقة، ولنقل إن العلاج هو اعتماد نظام غذائي خال من الجلوتين gluten ، والجلوتين بروتين نباتي يوجد في بعض الحبوب كالقمح والشعير، وهو الذي يعطي لعجين الخبز اللزوجة والتماسك، وصاحبي واحد من الذين يعانون من حساسية ضد هذا البروتين، هاته الحساسية التي تصيب الغشاء المخاطي للأمعاء الدقيقة، الشيء الذي ينتج عنه سوء امتصاص للعناصر المغذية من بروتينات ودهنيات وسكريات وفيتامينات وأملاح معدنية. ويسمى هذا المرض ب»المرض الجوفي» أو «الحساسية ضد الجلوتين»، أو ما يطلق عليه باللغة الفرنسية « مرض سيلياك maladie coeliaque». وتتنوع أعراض هذا المرض، وهي أعراض مشتركة مع أمراض أخرى كثيرة، كالإسهال وفقر الدم والتأخر في النمو، والهزال.. وهو ما يجعل مسألة تشخيصه من طرف الأطباء مسألة صعبة، بحكم أنهم لا ينتبهون إلى احتمال وجوده إلا بعد مدة قد تطول وقد تقصر من البحث والفحوصات، وهذا بالضبط ما حدث مع إحدى المريضات التي التقيناها، فهي وإن كانت مصابة بالمرض منذ صغرها إلا أن الأطباء لم يستطيعوا تشخيصه إلا عند بلوغها سن ال 26. شهادات ناطقة... فبعد سنوات من المعاناة من عدم قدرة على تشخيص المرض، رغم الزيارات المتكررة للمستشفيات والعيادات الطبية، تمكن أحد الأطباء الذين زارتهم من الالتفات لإمكانية إصابتها بالمرض الجوفي، فطلب منها أن تحذف خبز القمح من قائمة الأغذية التي تتناولها، ففعلت ذلك لمدة أسبوع حيث اقتصرت على تناول الخضار والأرز وتحسنت حالتها نسبيا، ثم طلب منها أن تستهلك الخبز مرة أخرى، ففعلت، فظهرت أعراض المرض مرة ثانية، وهذا ما جعل الطبيب المشرف يتأكد أن الأمر يتعلق فعلا بالمرض الجوفي، وهو ما تم تأكيده بشكل قاطع بعد أخذ عينة من الأمعاء الدقيقة وفحصها بالمجهر والتأكد من تلف الخملات المعوية المسؤولة عن الامتصاص المعوي. وإذا كانت قد تمكنت أخيرا من معرفة طبيعة مرضها فإن تحديا آخر سيبرز أمامها، وهو تحدي أن تعتاد على نظام غذائي لا حضور للقمح فيه، القمح الذي يعتبر المادة الأكثر استهلاكا لدى المغاربة والذي لا تخلو مائدة من المواد المصنوعة منه، وفعلا فقد تمكنت من التعود، وهي الآن بعد 20 سنة من اكتشاف المرض تعيش حياة عادية وطبيعية جدا... فهي ترى أن التضايق من المرض لا يكون إلا في البداية، إذ سرعان ما يعتاد المريض على نظامه الغذائي الجديد. سيدة أخرى تحكي عن تجربتها مع ابنها المصاب بالمرض الجوفي فتقول: اكتشف المرض عند طفلي في الشهر التاسع بعد الولادة، ظهرت عليه أعراض المرض آنذاك، وبعد إجراء فحوصات وتحاليل طبية أخبرني الطبيب المعالج أن طفلي يتطلب فقط حمية خالية من الجلوتين. في البداية بدا لي الأمر جد يسير، فطفلي كان رضيعا وتغذيته ترتكز أساسا على الحليب، لكن طفلي بدأ يكبر وينمو، ومعاناته ومعاناتي معه تزداد خصوصا عند التحاقه بالمدرسة، فقد بدأ يحس بحرمان شديد خصوصا أثناء الخرجات التي تقيمها المدرسة أو الحفلات والمناسبات، وأيضا في شهر رمضان حيث كان عليه أن يأخذ وجبته معه. وبدأ طفلي يعاني نفسيا معاناة خطيرة وينطوي على ذاته مما جعلني ألتجئ إلى طبيب مختص في علم النفس، وقد حاولنا تعويض هذا النقص بشراء مواد خالية من الجلوتين رغم ندرتها وارتفاع ثمنها المهول، وقد تولى أحد الأصدقاء جلب هذه المواد من الخارج غير إنه حدث ما لم يكن في الحسبان، فقد فوجئنا مرة بمكالمة هاتفية قال لينا فيها بأن الجمارك حجزت على كل المواد وطلبت أداء واجب مادي يفوق ثمنها، الشيء الذي جعلنا نرفض طبعا ونتركها في الجمارك. صعوبات تواجه تطبيق النظام الغذائي: تعترض الأشخاص الذين يعانون من مرض الحساسية ضد الجلوتين مجموعة من الصعوبات على مستويات عدة: فعلى المستوى الاقتصادي، يتطلب تطبيق النظام الغذائي الخاص بالمرض مصاريف إضافية، ذلك أن مواد الحمية مرتفعة الثمن، وعلى سبيل المثال فإن ثمن كيلو غرام واحد من الدقيق الخالي من الجلوتين يبلغ 180 درهم مقابل 5 دراهم للدقيق العادي، وإذا كان ثمن البسكوت العادي لا يتعدى 5 دراهم فإن ثمن بسكوت من نفس الحجم والكمية يبلغ 30 درهما، وحتى المنتوجات الغذائية المسموح بتناولها تبقى محدودة في ظل غياب قانون يفرض على شركات الصناعات الغذائية أن تكون صارمة من حيث الإشارة إلى وجود أو خلو المنتوج من مادة الجلوتين. وقد تم مؤخرا تخفيض الرسوم الجمركية المتعلقة بمنتوجات الصناعات الغذائية من 40 بالمئة إلى 2.5 بالمئة. وعلى المستوى النفسي الاجتماعي، ولأن المرض غير معروف عند الناس، فالمصاب بالمرض يجد في البداية صعوبة في تقبل فكرة عدم تناول خبز القمح، ويكون مضطرا في كل وقت لشرح مبدإ نظامه الغذائي، وهو ما يحد من مشاركته في الأنشطة الاجتماعية خارج منزله، بحيث يعتذر عن الزيارات والمناسبات كالأعراس والعقيقة والذهاب للمخيمات والمطاعم. الجمعية المغربية لذوي الحساسيةضد الجلوتين: مبادرة للم الشمل: ولتجاوز هاته الصعوبات تم تأسيس الجمعية المغربية لذوي الحساسية ضد الجلوتين سنة 2001م، وهي تتخذ من دار الشباب الليمون بالرباط مقرا لها، ولها موقع على الشبكة العنكبوتية تحت عنوان: www.amig.ifrance.com ويؤكد الأستاذ «غيور المهدي» وهو مختص في الحمية والتغذية ونائب رئيس الجمعية أن الفكرة جاءت لتجمع شمل المصابين بالمرض الجوفي وهي تهدف للتعريف بالمرض في وسط الساكنة، عبر مجموعة متنوعة من الأنشطة، كالأيام الدراسية والمحاضرات والمداخلات في وسائل الإعلام السمعية والبصرية والمكتوبة، وتقوم مساعدة المصابين بالمرض في تتبع النظام الغذائي الخالي من الجلوتينن وخلق فضاء للاستقبال والتبادل بين ذوي الحساسية ضد الجلوتين، حيث تخصص استقبالا للمنخرطين في الجمعية صباح كل يوم سبت، وتنظم لقاءات دورية لاستضافة المنخرطين الجدد، كما تهدف إلى التواصل مع العاملين في المجال الطبي وشبه الطبي لتوفير ظروف علاج أحسن، والتنسيق مع شركات الصناعات الغذائية لصنع وتوزيع منتوجات غذائية خالية من الجلوتين. يتزايد عدد المنخرطين في الجمعية بشكل مستمر، وهم يعملون على تبادل التجارب وتعميم ما توصلوا إليه بخصوص تحضير الوجبات الخاصة بالنظام الغذائي الخالي من الجلوتين، بل وينظمون ورشات تطبيقية لتحضير وجبات غذائية خالية من الجلوتين، تشبه في طريقة تحضيرها الوجبات العادية مثل الشباكية و»الفقاص» و»الكيك» و»غريبة» و»السفوف» والقريشلات والطرطات بالفواكه و»المخامر» والكسكس بدقيق الذرة والقائمة طويلة، والصور المرفقة توضح بعض النماذج. من قال إنه بالخبز وحده يحيى الإنسان؟ وإذن، فإن التعايش مع المرض أمر ممكن والاعتياد على نظام غذائي خال من الجلوتين قابل للتطبيق رغم الصعوبات التي ترافقه، وهنا نستطيع فعلا أن نؤكد مقولة مشهورة مفادها أن ليس بالخبز «خبز القمح» وحده يحيى الإنسان.