التعامل اللامسؤول للحكومة مع تقارير الهيآت الرقابية والقضائية ما كان يشعر به المواطنون، ويعيشون تفاصيله اليومية كشفه التقرير الأخير للمجلس الأعلى للحسابات بلغة الرصد والتدقيق والتقييم. فالواقع المعيش الذي كان ولا يزال يتسبب في معاناة حقيقية للمواطن بسبب تردي الخدمات في مختلف القطاعات الاجتماعية وغيرها، والذي كانت الحكومة ولا تزال تعاند في إنكاره، وتجاهد في سبيل فرض واقع آخر غير موجود، أكده المجلس الأعلى للحسابات الذي كشف عن الاختلالات الفظيعة التي تنخر بنية مختلف القطاعات الاجتماعية والخدماتية، وأزاح الستار عن العديد من مظاهر سوء التسيير في ما كانت الحكومة ولا تزال تتغنى بها كاستراتيجيات قطاعية استنزفت موارد مالية ضخمة وهائلة.
تقرير المجلس الأعلى للحسابات يمثل شكلا من أشكال المراقبة على تدبير الشأن العام في البلاد، وآلية من آليات المساءلة القضائية، ومن هنا يجد التساؤل عما ستقوم به الحكومة بعد صدور هذا التقرير من ردة الفعل مشروعيته. فإما أن الحكومة ستدير ظهرها للتقرير مرة أخرى، كما فعلت مع جميع التقارير السابقة سواء الصادرة عن المجلس الأعلى للحسابات أو عن جهات رقابية أخرى، وتواصل التمسك بمقولة (كم حاجة قضيناها بتركها) وبهذا السلوك السلبي ستساهم الحكومة، كالعادة، في استفحال مظاهر الاختلالات العميقة، وستزيد من توفير التربة الصالحة لنمو مظاهر سوء التسيير والفساد، مما سيزيد من تعميق الهوة بين الأداء الحكومي وانتظارات المغاربة، ومما سيضاعف من وتيرة وسرعة إهدار زمن الإصلاح، وإما أن الحكومة ستتحمل مسؤوليتها هذه المرة، وهذا احتمال مستبعد، بأن تبادر إلى الامتثال الفعلي لمضامين هذا التقرير الهام، سواء عبر تصحيح الأخطاء ومعالجة الاختلالات بسياسات عمومية بديلة وفعالة، أو عبر إعمال المحاسبة ضد المسؤولين الحكوميين والإداريين الذين قادوا قطاعاتهم التي يشرفون عليها إلى أوضاع الأزمة والتردي وسوء التسيير وبحجم الاختلالات التي سجلها التقرير.
لن تحيد الحكومة عن سلوكها التقليدي في التفاعل مع مضامين تقرير رسمي صادر عن جهة رقابية، قضائية، ولا يمكن حصر القضية برمتها في عدد من الملفات موضوع الاختلالات وسوء التسيير التي تمت إحالتها على القضاء، بما قد يضمن إلهاء الرأي العام عن المعالجة الحقيقية لتلك الاختلالات التي تتعلق وتتسع سنة تلو أخرى، وسيستمر الحال على ما هو عليه في انتظار صدور تقرير جديد للمجلس الأعلى للحسابات أو عن غيره من المؤسسات الرقابية الأخرى، ولن تتجاوز الحكومة هذا السقف لأنها ليست مؤهلة من حيث الانسجام السياسي، ومن حيث قوة الإرادة السياسية في الإصلاح للتعاطي المسؤول والفعال مع هذا التقرير الهام، لن تصحح أخطاءها، لن تُمارس نقدا ذاتيا لحصيلة أدائها، لن تكون لجنة وزارية لدراسة التقرير واستخلاص ما يجب استخلاصه منه، وبالتالي لا فائدة من المراهنة على حكومة تفتقد إلى إرادة الإصلاح الحقيقية.
إن الحكومة ومكوناتها السياسية أثقلت مسامعنا بشعارات المساءلة والمحاسبة، وها هي الفرصة أمامها مواتية لتجسيد مثل هذه الشعارات، لكنها لا تفعل، لأن تلك الشعارات لا تصلح إلا للمناورة و للتضليل.