دي ميستورا يبحث تطورات قضية الصحراء المغربية مع خارجية سلوفينيا    المغرب والسعودية يعززان التعاون الثنائي في اجتماع اللجنة المشتركة الرابعة عشر    المملكة العربية السعودية تشيد بجهود جلالة الملك رئيس لجنة القدس من أجل دعم القضية الفلسطينية    المملكة العربية السعودية تدعم مغربية الصحراء وتعتبر مبادرة الحكم الذاتي حلا وحيدا لهذا النزاع الإقليمي    الوقاية المدنية تتدخل لإنقاذ أشخاص علقوا داخل مصعد بمصحة خاصة بطنجة    إجهاض محاولة تهريب دولي للمخدرات بميناء طنجة المتوسط وحجز 107 كيلوغرامات من الشيرا    أوزين: عدم التصويت على قانون الإضراب مزايدة سياسية والقانون تضمن ملاحظات الأغلبية والمعارضة    وزيرة التنمية الاجتماعية الفلسطينية تُشيد بمبادرات جلالة الملك محمد السادس لدعم صمود الفلسطينيين    تعرف على برنامج معسكر المنتخب المغربي قبل مواجهتي النيجر وتنزانيا في تصفيات كأس العالم 2026    لهذه الاسباب سيميوني مدرب الأتليتيكو غاضب من المغربي إبراهيم دياز … !    صرخة خيانة تهز أركان البوليساريو: شهادة صادمة تكشف المستور    الأمم المتحدة تحذر من قمع منهجي لنشطاء حقوق الإنسان في الجزائر    سلا: حفل استلام ست مروحيات قتالية من طراز 'أباتشي AH-64E'    الاستثمار السياحي يقوي جاذبية أكادير    الكاف يشيد بتألق إبراهيم دياز ويصفه بالسلاح الفتاك    فيفا يكشف جوائز مونديال الأندية    المغرب يستقبل أولى دفعات مروحيات أباتشي الأميركية    "حماس" تؤكد مباحثات مع أمريكا    نشرة إنذارية.. تساقطات ثلجية وزخات مطرية رعدية قوية الأربعاء والخميس    فاس تُضيء مستقبل التعليم بانضمامها لشبكة مدن التعلم العالمية    إقليم الحسيمة .. أزيد من 17 ألف أسرة مستفيدة من عملية "رمضان 1446"    3 قمم متتالية تكرس عزلة النظام الجزائري وسط المجموعة العربية وتفقده صوابه ومن عناوين تخبطه الدعوة إلى قمة عربية يوم انتهاء قمة القاهرة!    المغرب..البنك الأوروبي للاستثمار يسرّع دعمه بتمويلات بقيمة 500 مليون أورو في 2024    دنيا بطمة تعود لنشاطها الفني بعد عيد الفطر    وزارة الصحة : تسجيل انخفاض متواصل في حالات الإصابة ببوحمرون    تداولات بورصة البيضاء بأداء سلبي    عمرو خالد: 3 أمراض قلبية تمنع الهداية.. و3 صفات لرفقة النبي بالجنة    "أونسا" يطمئن بشأن صحة القطيع    وكيل أعمال لامين يامال يحسم الجدل: اللاعب سيمدّد عقده مع برشلونة    مونديال الأندية.. "فيفا" يخصص جوائز مالية بقيمة مليار دولار    قصص رمضانية.. قصة بائعة اللبن مع عمر بن الخطاب (فيديو)    مطار محمد الخامس يلغي التفتيش عند المداخل لتسريع وصول المسافرين    هذه مقاييس التساقطات المطرية المسلجة خلال يوم واحد.. وهذه توقعات الخميس    مسؤول يفسر أسباب انخفاض حالات الإصابة بفيروس الحصبة    دراسة: النساء أكثر عرضة للإصابة بمرض ألزهايمر من الرجال    العثور على أربعيني ميتًا نواحي اقليم الحسيمة يستنفر الدرك الملكي    حدود القمة العربية وحظوظها…زاوية مغربية للنظر    «دلالات السينما المغربية»:إصدار جديد للدكتور حميد اتباتويرسم ملامح الهوية السينمائية وعلاقتهابالثقافة والخصائص الجمالية    «محنة التاريخ» في الإعلام العمومي    القناة الثانية تتصدر المشهد الرمضاني بحصّة مشاهدة 36%    تحذير من حساب مزيف باسم رئيس الحكومة على منصة "إكس"    طنجة تتصدر مدن الجهة في إحداث المقاولات خلال 2024    النيابة العامة تتابع حسناوي بانتحال صفة والتشهير ونشر ادعاءات كاذبة    أمن طنجة يحقق في واقعة تكسير زجاج سيارة نقل العمال    كسر الصيام" بالتمر والحليب… هل هي عادة صحية؟    اليماني: شركات المحروقات تواصل جمع الأرباح الفاحشة والأسعار لم تتأثر بالانخفاض في السوق الدولية    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال 24 ساعة الماضية    هذه أبرز تصريحات ترامب في خطابه أمام الكونغرس    أبطال أوروبا.. قمة ألمانيا بين البايرن و ليفركوزن واختبار ل"PSG" أمام ليفربول    مكملات غذائية تسبب أضرارًا صحية خطيرة: تحذير من الغرسنية الصمغية    الصين تعلن عن زيادة ميزانيتها العسكرية بنسبة 7,2 بالمائة للعام الثالث على التوالي    المنتخب المغربي يدخل معسكرا إعداديا بدءا من 17 مارس تحضيرا لمواجهة النيجر وتنزانيا    اجتماع بالحسيمة لمراقبة الأسعار ومعالجة شكايات المستهلكين    عمرو خالد يكشف "ثلاثية الحماية" من خداع النفس لبلوغ الطمأنينة الروحية    وزارة الثقافة تطلق برنامج دعم المشاريع الثقافية والفنية لسنة 2025    في حضرة سيدنا رمضان.. هل يجوز صيام المسلم بنية التوبة عن ذنب اقترفه؟ (فيديو)    عمرو خالد: هذه أضلاع "المثلث الذهبي" لسعة الأرزاق ورحابة الآفاق    بريسول ينبه لشروط الصيام الصحيح ويستعرض أنشطة المجلس في رمضان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عن السرّ
نشر في العلم يوم 30 - 06 - 2009

السرّ ، مع ذلك و بخلاف الهبة ، لا يستتبع من طرف مستقبله لزوم سرّ مقابل أو سرّ معادل : السرّ يفلت من نظام التبادل و من التداول المساوم : ابتدأ السرّ مع بداية تاريخ الإنسان ، لأنه عبر تاريخي ، مجاني و غير متوقّع . لا يستوجب أية معرفة مختصّة ، أيّ علم محدّد ؛ إنّه يطلب ربّما انتباها خاصا للكائنات و للأشياء . هذا التهيّؤ الذهني هو ربّما قدرة ، فرصة مؤاتية و ليس شرطا ضروريا لتلقّيه . ليس السرّ أبدا الضمان المطلق لتمهّن ما و حتى لتزهّد ما .
السرّ هو خاصية الكائن ؛ إنّه لفي العزلة تنكشف الأشياء في حقيقتها العميقة . ناقل أو حامل السرّ هو كائن غريب ، مزدوج ؛ يملك معرفة العالم المرئي و العالم اللامرئي . يعرف أسرار السماء و أسرار الأرض . رسول الآلهة عند الإغريق هو هرمس ، ربّ اللصوص و التجار و المسافرين ، و عند المتصوفة المسلمين هوهذا المعلّم المرتحل ، الخفيّ عن الناس و الذي علّم موسى سرّ بعض الحكم ( سورة الكهف ، الآيات 64 81 ) ، هو أيضا هذا العبد لله الذي يحمل البشرى لأخيارالله.
هذه البشرى هي رسالة كثيفة معتمة للآخرين . لحلّ رموز هذه الرسالة ، يجب أن تكون مذرورا في علم ذي مدخل صعب : الهرمسية . في التقليد الإسلامي يحتل السرّ مكانة معتبرة في المؤلفات الصوفية : أبو نعيم الأصفهاني ، أبو عبد الرحمان السلمي ، أبو القاسم القشيري ، كلهم يدرجونه كشرط لتحقّق المعرفة الباطنية . في اللغة العربية تُترجم لفظة « السرّ « ب « secret « ، المعرفة القلبية . و الذي لا يمكنه أن يحتفظ بسرّ أو عاجز عن فهمه يُقال له « سرْ « ، يُقصى هكذا من ألغازه و خفاياه . إنّ استقبال و استبعاد كوكب السرّ يشكّلان الموضوعة ذاتها للقصة التي تحمل عنوان « الباب المضاء « .
ذاك ما سيعيدنا بالطّبع إلى تعقّب تمظهرات هذه الهبة الخاصة ، إلى وصف مكوناتها و إلى تحليل خطوط قوتها .
« مسبحة من عنبر « * سترافقنا . العمل موسوم ببصمة السرّ التي تمنحه انسجامه و وحدته .
ليس الفضاءالجغرافي الخارجي لفاس ، ليست الشخصيات ، الشعب الصغير من « الفقها « ، من « الدّرازا « ، من « الكرابا « القريبين من السارد سنوات 1930 1940 ، هي التي تصل بين هذه المحكيات ، بقدر حضور فوق الطبيعي في الواقعي ، بقدروجود صوت الماوراء الغامض الخفي الذي يضمّها و ينيرها .
1 عن الإنعزال
ما يثير الإنتباه في هذه الحكايات الأربعة عشرة هي العزلة التي تنوجد فيها أغلبية الشخصيات
« إنّه لمن العذوبة أن تكلّم رفاقك في انعزال « ( ص 12 ) سيقول المتسكّع الذي جاء عند الحاج حمّاد ليموت
« لقد أتيت لأضيء وحدتك « ( ص 27)
« لقد مشيت طويلا قبل أن أكتشف هذا الملاذ ، أنا مرتاح فيه « سيقول الرجل المحبوس في « مغارة « ( ص 88)
« قلبي قلب إنسان وحيد ، عاجز عن المشاركة في مباهج الليل « ( ص 160)
« الآن أنا وحيد مع أشباحي « ( ص 167)
يجب التوضيح حالا أن الإنعزال موضوع الحديث ليس انكفاء على الذات و لا زهوا أو عُجبا ، ليست لامبالاة أو احتقارا للآخرين : إنّها صلاة ؛ محلّ العزلة و الصلاة هو غالبا فضاء قليل الضّوء ، مغلق ، حجيرة مثلا
« اليوم أنا سعيد في حجرتي الضيقة « ( القصة الثالثة ، ص 24)
« بمجرّد وصولي إلى حجيرتي ، استللته ( السيف ) حتى أتملّى النّصل « ( القصة الثالثة ، ص 29)
« تركت حصيرتي ، أبصرت المقبرة التي تشرف عليها حجيرتي « ( القصة السادسة ، ص 51)
« أقتسم مع عبد الله حجيرتي الضيقة « ( القصة الثامنة ، ص 65)
« كيف لي أن أتحدّث عن الغنى ، أنا الذي أعيش على الخبز و الزيتون في حجيرتي « ( القصة الثالثة عشرة ، ص 131) .
لنوقفْ هذا التعداد و لنفكّرْ حول معنى هذا الفضاء ذي الامتياز . الحجيرة ، المغارة ، الكهف التي تتخذها الشخصيات محلّ الإقامة ، ليست أمكنة مغلقة خارجة عن مدينة و حياة الناس . ثمّة علاقة متواترة تصل الخارج بالدّاخل . و ماذا لو أنّ الحجرة الضيقة أو المغارة ، للمفارقة ، اتّضح أنّهما أكثر رحابة و اتّساعا من البيت أو العالم ؟ كيف نفهم إذن بوجه آخر البحث أو الرغبة في الإنزواء في هذه العزلة ، في هذا الفضاء ذي القيمة ؟ معادل الحجرة الضيقة والإنعزال هو المفردة الصوفية : « الخلوة « ( ص 40 ) . الخلوة هي فضاء التأمّل و الصّلاة . أن تنعزل في خلوة هو أن تنعزل عن العالم ، ليس للهروب منه ، و لكن لفهمه بشكل أفضل . نظرتنا إلى العالم تتّسع في الحجرة الضيقة . لهذا لا أرى من معادل في المرتبة الرمزية للحجرة الضيقة أو للكهف سوى الصّحراء . في الحجرة الضيقة كما في الصّحراء ما أسمعه هو عظمة الصّمت ، هو صدى كياني . الحجرة الضيقة كما الصّحراء تضيّق عليّ و تحرّرني ، تخفيني و تكشفني . مسجونا في مغارة أو وحيدا في صحراء أقيس حجم عظمتي و تفاهتي . العلاقة بين الحجرة الضيقة و الصّحراء ليست علاقة كبير بصغير ، مفتوح بمغلق ،
لكنّها علاقة انكشاف و صلاة . أهي ظلمة العزلة ؟ لا شيء يقيني : يظلّ النور يلوّث الحجرة الضيقة .
« في العشية ، لمّا اخترت هذا الثقب لكي أحتمي فيه من الليل ، هذه الكوة كانت تطلّ على البحر ، بحر هادئ بشكل غريب ، صموت بشكل غريب ، النّجمات كانت تنعكس عليه بالآلاف . هذا الصباح ، الشمس أميرة المحرومين لوثت مغارتي بإشراقها « ( ص 88)
الكهف ، الحجرة الضيقة هما مكان الضّياء كما الصّحراء !
لقد فهمنا الأمر بوضوح : نفس روحاني يحرّك عمل أحمد الصفريوي ؛ لكنّها روحانية بسيطة ، شعبية دون تدجيل .
عمل الصفريوي مليء بإيحاءات و إحالات على المقدّس . الشخوص ، رجال السّراديب و الدهاليز هم من عامّة النّاس ، غير أنّهم حارسو الحكمة .
في بساطتهم ، نراهم منتظرين نورا ما ينيرهم .
2 الرّسول
عالم أحمد الصفريوي هو عالم بلا عنف ، عالم سلام . النّاس تتحرّك في فضاء مألوف ، معروف بمرجعياته السوسيوثقافية المطمئنة . كلّ واحد يحتل مكانة خاصة استأثر بها داخل المجتمع . لا أحد تذمّر من قدره و مصيره . الحياة تجري هادئة و وديعة ، برضى الأيام و الفصول ، بمشيئة الصّلوات و الشّدو .
يحدث ، مع ذلك ، أنّ هذا الفضاء « المعقول « ينقلب إلى فضاء آخر غير حقيقي ، أنّ حجابا خفيّا يمزق هذا العالم المطمئنّ . أريد الكلام عن الظهور المتعدّد الذي يبنين أغلبية هذه القصص .
هكذا ، و منذ الصفحة الأولى من الحكاية الأولى ، نرى القاضي الحاج حماد مرتاحا في بيته حين تنبئه الخادمة أنّ « متسكّعا أشعث ، رثيث الثّياب يطلبه عند الباب « و تضيف « إنّه لا يشبه كثيرا المتسولين العاديين وأنّ نورا ينتشر على وجهه « ( ص 7 ) . القاضي يكرّم هذا المسافر الغريب ، و الغد يموت المسكين دون البوح بإسمه و لا بغايته ؛ و كرسالة وحيدة يترك مخطوطة قديمة لن يحتفظ القاضي منها سوى بشذرة ، حارقا الباقي الذي ، كما قال ، بدا له غير مفهوم . هل أحرقه حقّا ؟ألن يظهر في القصة الثالثة عشرة ؟ ...
القصة الثالثة من هذا العمل « سيف صاحبي « تحكي هي عن أحد ما احتجز نفسه في حجرة ضيقة فوق اصطبل . يقرّر يوما الخروج للهواء الطلق ، بعيدا عن المدينة . يجلس كي يأكل وحيدا . لكنّه يسمع ضجّة أقدام تقترب من خلفه : « الحشرات نكّسن قرون استشعارهن ، تكوّرن في ثنايا أجنحتهن ... الخطوات ما زالت تقترب . بعد قليل ستتوقف ، أصبح الصّمت أكثر ثقلا ... لا يمكنني تقدير مدّة هذا الإفتتان « حينئذ « جاء رجل ليقعي إلى جانبي ، ظللت مسحورا بقناعه الذهبي تحيط به لحية سوداء . أعندك ما يسدّ جوع أخيك ؟ قال لي ، لقد قطعت مسافة طويلة دون استراحة أو طعام . أقدامي تحتفظ بذكرى أليمة لهذا السّفر ، انظرْ « . في صمت قال السارد ، تناولت إبريقا مملوءا بالماء السّاخن و طهّرت له جروحه « ( ص 26 ). عندئذ ، منحه الرجل المجهول قبل ذهابه سيفا كهديّة . على نصله اللامع طُبعت بأحرف من ذهب هذه الكلمات : في سبيل الحرب المقدّسة إن شاء الله « ( ص 28) .
لنجمل ْ : أحدهم تلقى رسالة من مسافر غريب تمّت مساعدته : هذه الرسالة أخذت شكل أعطية : مخطوطة أو سيف .
الظهور الثالث يتعلّق بقصة هذا الخزّاف ، « المخبول بالله « ( القصة الثامنة ) . إنّه في المسجد حين التقى هو الآخر بمجهول . هذا الأخير لا أحد يعرفه ، كان يرتدي ثيابا تُشتمّ منها الجنة ... لا يكلّم أحدا ... استحوذ على الجميع بقامته الفارعة .
في اليوم التالي ، مات الخزّاف فجأة . تمّ العثور عليه ميّتا في بستان بين الورود و النّرجس ، يمسك بين يديه إناء من فخّار يتدفق منه فيض من النّور . في قعر الإناء أشعة متوهجة لزهرة غريبة تخطف البصر « ( ص 72) .
سيكون عندنا أيضا ظهور آخر لهذا الرجل فارع القامة في القصة الثالثة عشرة « مسبحة من عنبر « .
في هذه القصة الهامة التي تعطي إسمها لكل العمل القصصي ، سرّان سيتمّ إفشاؤهما للسارد الذي يعيش وحده حابسا نفسه في حجرة ضيقة . يعيش حياة شظف على تمر و على كسرة حبز يابس . هذا السارد يدعى « أحمد « . يخرج مرّة للذهاب إلى المسجد و هناك ، مستندا إلى عمود ، يبصر هذا الرجل الغريب يقترب منه :
« رجل بقامة فارعة ، بوجه أسد و بعيون من جمر ، يدنو من أحمد ، يحييه و يجلس قربه «. يعلن لهذا الأخير لأحمد أنّ مقامه في المسجد ، من الآن فصاعدا ، سيكون دائما في الصّدارة . ثمّ : أخرج الرجل من أحد جيوب قفطانه مسبحة بثلاث و ثلاثين حبّة مكوّرة مصنوعة من مادة شهباء منضّدة في خيط من حرير . « خذها و انتعشْ بعطرها « ( ص 134)
من تكون هذه الشخصية الغريبة الموصوفة لنا دائما باعتبارها « رجلا بقامة فارعة « ؟ هذا المسافر الذي لا يكلّم أحدا سوى السارد الزّاهد ليس سوى الخضر ، هذا الرسول المكلّف بنقل الأخبار السّارة السرّ إلى بعض الأتقياء المتزهّدين الواصلين إلى منزلة المصطفين أخيار الله . الرسول الغريب سيدعو السارد ب « رفيق الفجر « .
بتناوله للمسبحة ، سيقول أحمد : « لا بدّ أن تكون علامة أخيار الله « .
علينا الآن أن نتكلّم عن أعطية أخرى . السارد ، لمّا كان شابّا ، كان يحبّ الذهاب لسماع المحكيات التي يحكيها الشيخ المكّي في الساحة العامة . هذا الأخير حظي بصيت ذائع لأنه كان يفتن الجمهور بقصصه الجميلة :
« كان المستمعون يحلمون ، يتوترون ، يسترخون ، يتمايلون من االسرور ، يختنقون من الفرح ، يسيل ريقهم من المتعة « ( ص 141 ) . مثل هذا القصّاص القادر على أن يسحر الحضور و أن يحتفظ به في حالة ترقّب و انتظار لمدّة ساعات و ساعات لا يمكن أن يكون مضحكا أو مهرّجا ، بل شاعرا، شاعرا بطوليا ، شاعرا منشدا . المكّي أعمى مثل هوميروس . و مثل هوميروس ، كلمته لها قدرة اليقين ، لها بلاغة البرهان ، لها قوّة الالتحام . بالاستماع إليه « الحرفي ينسى صراعه مع المادة ، التاجر موازينه و مكاييله ، ... النباتات و الحشرات تميّز الناس و تحاول أن تتحدّث إليهم بلسان أصيل « ( ص 141 142 ) . مثل هذه السلطة للسان تملك القدرة على أن تصل بين عناصر متباعدة من الكون و تملك القدرة على أن تعيد خلق العالم . إلاّ أنّ المكّي الأعمى شاخ ، و عليه أن يموت . عليه أن ينقل إلى تلميذه الوفي الوحيد ، أحمد ، فنّ و سرّ نظم الكلمات ، القواعد القاسية لتلاحق المحكيات ، و الاختيار الشاق لقولها أمام الجمهور . ليس كلّ من أراد أن يصير قصّاصا يكون . غير أنّ أحمد سيقبل أعطية الكلام هاته .
3 الطّلاسم
حان الوقت للحديث عن هذه الأشياء الثمينة ، عن هذه العلامات التي تمّ تلقيها في السرّ ، و التي تروج في العمل القصصي ، و التي يدعوها أحمد الصفريوي « الطلاسم ّ . ها هي حسب ترتيب ظهورها :
1 المخطوطة ، 2 السيف ، 3 الزهرة ، 4 المسبحة ، 5 الكلمة .
رغم خاصياتها الغريبة ، توجد هذه الأشياء الخمسة مترابطة فيما بينها . هكذا ، بين الأول ( المخطوطة ) و الخامس ( الكلمة ) فالعلاقة هي علاقة الصوت بالكتابة . المخطوطة هي الكلام المنظم في حروف ، في خطاب ، في كتابة . المخطوطة و الكلمة ، جانبان مزدوجان لنفس الكيان ، يصدران عن نظام المعرفة و مهارة تبليغه : القراءة و الكلام . القراءة و التعليم . هذه المعرفة مثلما هي موضوعة في كتب التراث ( السارد يقول لنا في لحظة ما أنّه يقلّب صفحات من كتاب قديم للغزالي ) ، هي موجودة أيضا في ذاكرة بعض الشعراء البطوليين ، المتعبين ، المتسكّعين ، المالكين لحكمة مستمدّة من الأسلاف . بين السيف ذي الفولاذ اللامع المنقوشة عليه رموز مأثورة و الزهرة الخارقة ، الأعجوبة ، فإنّ الصلة ، تبدو لي ، هي صلة الجمال : لمعان السيف يستدعي الجمال الصّافي للزّهرة المجنونة « المغمورة بأشعة متوهّجة « ( ص 72 ) . المسبحة ( الشيء الرابع ) هي جسم مقدّس يرافق الصلاة ، يسمح بالتلاوة و بالتعزيم . أداة تسهل الاستذكار ، بتحريك حبّاتها ، تسمح بالتذكير بمحاسن الكون و بالنّعم التي وهبنا الله إيّاها . بالتسبيح نستميل ماضينا الذي بدونه يبدو الحاضر
بلا معنى .
هذه المسبحة من عنبر . العنبر مادة تنشأ عن التخثرات المعوية للعنابر ( حيوانات ثديية عظيمة من رتبة الحوتيات ) و الملفوظة إلى سطح البحر . سواء كان العنبر رماديا أو أصفر ، فإنّه يطلق عطرا نافذا ، تقترن به ميزات الجمال و اللطافة . ألا يقال في اللغة الفرنسية عن إنسان إنّه مثل العنبر للتدليل على عقله الثاقب و النافذ؟
و لأنّها من العنبر ، تقرن المسبحة إذن القوة والجمال الأصيل لمادتها برقة عطرها الأثيري اللطيف .
بتناوله المخطوطة و بأخذه الإجازة و حرية « القول « ، فإنّ السارد يجد نفسه قد تقلّد أهلية و كفاءة فهم الخط و حظوة تبليغ كلام الأسلاف . السيف و الزهرة تشهدان إذن على الطبيعة السريّة لهذه الأعطية .
من هذا التقليد ، المكتوب و الشفوي ، لم يرث أحمد الصفريوي أية سلطة . ما ورثه بالمقابل هو القليل من المعرفة ، القليل من الجمال ، و الكثير من الحكمة .
يلزم تخيّل أحمد الصفريوي كإنسان سعيد ، مصاب بالنعمة ، نعمة السرّ وسرّ التقليد .
* ملحوظة : كل الإحالات الموجودة في هذه القراءة مأخوذة من العمل القصصي « مسبحة من عنبر « لأحمد الصفريوي ، منشورات سوي ، 1964 .
المرجع :
Langues et littératures ,1993 , publication de la faculté des lettres et des sciences humaines _ RABAT , p : 23 _29


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.