اليوم «مر هذا اليوم»، حين تأكد من ذلك، لم يحس خلاصا، لكنه تذكر أنه لم يكن «يوما صعبا» فقط، بل كان عسيرا، إن لم يكن متعذرا بالمرة على المرور، كأن متجشمه ظل يخوض جبالا وسفوحا وسدودا ومستنقعات، من غير أن يصل، لذلك يبقى من الخطأ أن يدخل ضمن المدة «المحددة» والمتبقية و»المسموح بها»، كأنه طالب بإصرار أن يكون، أو أن يأتي، وأنه تم إخباره من البداية وأحيط علما، فوافق، ومن المغيظ أن الأمور لا تريد أن تتوقف عند هذا الحد، واختصارا، فإنه ظل لا يجد أحدا يحتج له، تماما كما يحتج أرباب النقابات على شخص يعرفون أنه يمسك في يده بالملف. شغف وحده الشغف بالمحال يبرر كوننا نحاول على أية حال أن نعيش، فقط إلى الظهيرة، على أمل أن نلتقي أثناءها، وحينما تحل الظهيرة، تحدث المعجزة فعلا، فنلتقي، لذلك لا نجد بأسا من أن نستمر إلى العصر،وبمجرد ما يحل العصر نفترق، وهكذا، فنحن نحاول على أية حال أن نعيش، من أجل أشياء واهية، أو مخالفة بالمرة للصواب. طريق ظل منذ الصباح يسير نحو الميناء، مهتديا بالأشجار وبالأرصفة، حين اقترب، ساوره الإحساس فجأة بأنه أخطأ الطريق. حياة الحياة يجب أن تكون مثل الحديقة إزاء الغابة، (يجب أن تكون)منقاة، أي مصححة، وعلى خلاف الحديقة، يجب أن تكون الحياة مزيجا بين الحقيقي والمفترض... كلام أحيانا، يتقوى الإحساس بأن كل شيء قيل، وأن الإنسان جاء متأخرا، وأحيانا، حين يأتي العصر،، يحس أن شيئا لم يقل. وحدة لا يموت الإنسان لوحده، بل لا أحد يموت. رغبة حينما تجيب عن رغبة، تجد أنه من العار أن تجشم نفسك كل تلك المشقة من أجل رغبة بسيطة، إن لم يكن من اللائق القول بأنها تافهة، وكان من الأليق نيلها بلا مشقة، لأنها في النهاية مجرد رغبة، كل شيء ينالها، حتى من لا يستحق، قد يكون المنع هو ما يزيد من إضفاء لاالجاذبية، بل الضلالة ?التي تصير وهما، يجعل المرء يعتقد أنه هو الذي رغب فيها، وليس الطبيعة هي التي ترغب من خلاله-، وليست المشقة العارمة التي أودت بكرامتك عن آخرها، كما تودي جيوش غازية بسيادة بلد، هي التي سيجعلها تستحق في الأخير بل قصاراها أن تجعلك تحس بكمية الانحدار، انحدارا يجعل الحل الأمثل لها هو قمعها،لأن كل الحلول غير المثلى تعود إلى باب المجتمع الذي أطبق عليها وقضى أن تحقيقها «حرام» خارج تصوره المشروع لها، ولا يكون التكيف مع تصوره خاليا من حروق داخلية أو من غير «فرح» يبقى مشروطا بإزعاج الآخرين،.. ولكن لا حياة من غير تحقيق رغبة أيضا! ما كلما كنت صادقا، إلا ولم تستهبل فقط، بل حق فيك العقاب. وكلما بذلت مجهودا لقضاء أمر، لم يقض، مهما كان يسيرا، .. وكلما ضربت موعدا وجئت للإنتظار مبكرا، لكن لم يأت أحد، لماذا؟ ضجيج يقتضي الضجيج غسلا من الداخل، لأنه يجعل الاحساس كالحا، ويظل كل الصمت الذي يعقبه، هزيلا، وغير ذي جدوى. يأس غالبا ما يكون اليأس في اليوم الموالي،غير مسبوق، لكن لا يمكن مجاوزته بالموت. أفيون أمام الهياج يعود سخيفا الحديث، حتى تجاوزا، عن «رياضة»، يقتضي قتل، أو إبعاد من لا ينتمي للجماعة، ويصير «الوطن» هو ما يدعو إليه النشيد،والوطن في عرف النشيد ملعب، والناس كلهم سواسية، يلزم مسح الخصوصيات والاختلافات عنهم، ومهمتهم هي أن يهتفوا. مشيئة إنك لن تلغي المشيئة، بضربة نرد. حديقة أدرك بأنه كان يعرف الحديقة من قبل، لذلك جاء إليها، قاصدا، غير أنه لا يذكر لماذا جاء و من أين وإلى أين كان يريد أن يمضي. ألقى نظرة أخرى من حوله، فبدا له كل شيء غريبا، ساوره ما يشبه استمرار العشب المشذب، والأشجار، ثم الجو الغائم، وكأنما الدنيا على وشك أن تمطر،سره ذلك حينا،لكنه ما لبث أن أحس بالإكتئاب خصوصا حين تساءل عما يتعين عليه أن يفعل، إنه لا يدري بالمرة. بعد قليل جلس في الكرسي إلى جانبه عدة تلاميذ، فانتبه إلى المدرسة التي لاحت له في الجوار. خطر له أن يسأل التلاميذ عن اليوم وعن التاريخ، لكنه أحس بالنفور من ذلك، بعدئذ انضاف إلى التلاميذ زملاء وزميلات لهم، فنهض وانصرف. في الطريق التقى بشخص تصور بأنه كان يعرفه في السابق، فسأله عن إسمه هو، فنظر إليه هذا مندهشا، ثم قال له بأنه لا يعرف بالطبع!وسأله الشخص بعد قليل أي جهة يقصد، حاول أن يجيب، غير أنه لم يفلح، فسأله الشخص فيما إذا كانت صحته على ما يرام؟ فنظر إليه، وأحس وجهه ممتقعا، ولكنه لم يرد على الشخص الذي بدت عليه، إمارات الاستغراب، سأله عن إسمه، فنظر إليه هو مستغربا ، وحاول أن يتذكر، ولكن بلا جدوى، ودعه حينئذ وسار في الشارع، فانتبه أنه يحمل حقيبة، فوضعها بمدخل منزل، وفتح الحقيبة بلهفة وبدأ يبحث فيها عله يجد فيها ما يمكن أن ينقذه، و ما يجعله يتعرف به على نفسه، وعن الوجهة التي كان يريد أن يصل إليها، فوجد عدة النظافة وقميصا وفوطة.. لمح مسجدا، فدنا منه، ثم دخله، وجده فارغا إلا من رجل توجه نحوه وحياه، فسأله الرجل إذا ما كان يريد شيئا؟ فنظر إليه بصمت ، وتلفظ بخفوت، سأله من يكون هو؟ فابتسم الرجل وأجاب بأن الأمر لا يهم، ثم تغيرت سيماء وجه الرجل عما ظل يعتبره عطفا، وصارت شكا. وحينئذ لم يعرف مرة أخرى ما الذي يتعين عليه أن يفعل، كان يريد من الرجل أن يساعده. توجه الرجل إلى الهاتف وأجرى مكالمة، وحينما استدار نحوه قال له بأنه أخبر الشرطة، التي حينما جاءت، سألته عن إسمه، ومحل إقامته، وأقربائه، فقال بأنه لا يدري! فقال له الشرطي فيما إذا كان «يستهبل»؟! لم يفهم وقال للشرطي باستسلام أن بإمكانه أن يلقي القبض عليه في الحال! أخرجه الشرطي خارج المسجد، وأمره بالركوب في السيارة، التي قادها إلى مكتبه بالمخفر.في مكتبه أخرج أوراقا ووضعها في الآلة، ثم سأله من جديد عن إسمه وعمله ومحل إقامته، فلزم الصمت وأخذ فقط ينظر اليه سأله عن تاريخ ميلاده، واصل النظر إليه في صمت، فازداد هو شكا، وسألنه فيما إذا كان يمثل يعني؟ فلما ازداد صمتا، عاد هو يسأله فيما إذا كان شرب شيئا أو دخنه؟! دخل شرطي آخر تمتم مع الأول في أذنه ، فنظر إليه متفحصا، ثم تناول حقيبتي وفتحها، وأخذ يبعث في محتوياتها بحركة تنم عن خشونة، بعد أن تأكد أنه لم يجد شيئا، غير المنديل وعدة النظافة والقميص، استاء كثيرا وصرخ في وجهه متسائلا، ماذا يفعل لكي يجد شيئا يجعلهم يستقبلونني في المستشفى؟! وعاد الشرطي الأول، الذي قال، مغلوبا بأنه سيسأل طبيبا يعرفه، حينما جاء الطبيب، سأل الشاب فيما إذا كانت تعني له أرقام قدمها له شيئا، لم تعن له الأرقام شيئا، خرج الطبيب من القسم غاضبا. أحاله الشرطي في النهاية إلى عيادة. في العيادة طرحوا عليه جملة من الأسئلة والتي، على كل تفاهتها، لم يكن» يعرف «الإجابة عنها. اقترح عليه الطبيب أن يجري اختبارات قد تكشف عن هويته! استعرض على الطبيب الجديد أحلاما، كان الأمر أكثر صعوبة ولكنه تذكر مع ذلك حلما يوقظه منه رجل مسن هاتفا به «قم يا عيسى». لم يصدق أنه عثر بمثل تلك السهولة عن إسمه، لكن على الرغم من ذلك ساوره الكثير من الفرح جعله يحس على أنه على وشك التخلص من العيادة المتسخة التي سيمكث فيها خمسة أشهر أخرى..لم تعد الأحلام تؤدي إلى نتائج، وكل ما صرح به للطبيب لم يقنعه وزاده شكا .بدأ يفقد القدرة على المقاومة، لم يعد يكترث بكلامه وبالمكان، ورفض أن يواصل الإجابة على الأسئلة المقرفة ، صار الجميع يريد التخلص منه ولكن أين يمكن أن يذهب؟ فكرة الإقامة في أمكنة المشردين لم تعجبه بالطبع، كان يفضل البقاء في العيادة إلى أجل آخر. قال للطبيب الذي كان يتولى فحصه بأنه غير قادر هكذا على مواصلة استعراض كوابيسه! حينما تأكد من تصميمه، أمر أن يغادر العيادة. فالتحق بمأوى يعج بالمشردين، التقى أشخاصا يقولون كلهم بأن الحبل انقطع بهم. استطاع مع ذلك، في اليوم الأول أن ينام، فأيقظه رجل سكران،حين انتهى من الهذيان تصور أنه نام ،وحينما استيقظ في يوم الغد مبكرا ،تناول ما يشبه الفطور مع المشردين. بعثته إدارة المأوى إلى مكتب «الحالة المدنية» ، في مقاطعة قريبة من المأوى، التمس من موظف أن يمنحه اسما آخر بدل «عيسى» هذا الذي ظل يعيش به،والذي ظل يحس أنه ليس هو اسمه الحقيقي، فقال له الموظف بأنه لا يمكن أن يبث حقا في هذا الملتمس الا بعدما تنتهي الشرطة من تحقيقها! فعاد عند الشرطة أثناء مقابلة أخرى، قال له الشرطي الذي وجده بالمكتب الثالث في الطابق الأول من المخفر أنه يرى بأن الحل الأنسب هو أن يطوي الملف بالمرة ما دام هو بلا هوية أصلا! عاد إلى المأوى، ومنه انتقل بعد سنوات للإقامة في غرفة مستقلة. وتبين له من خلال عدة جلسات مع إدارة أخرى أحالته عليها إدارة المأوى الأول، أن اسمه الحقيقي هو «حسن»، وذلك أثناء مشاركته في برنامج بكاب راديو، فغمره شعور غريب وهو يحمل سماعة الهاتف، ويجيب شخصا اتصل، وقال بأنه والده، وأنه هو اشتغل من قبل ممرضا!