كما أن من تداعيات الحادي عشر من سبتمبر أنها سرقت من الجميع لغة الحجاج العقلاني ومنطق الكتابة وأسلوب التوافق. مما أدى إلى صعود السلفية الغوغائية في العالم الإسلامي، والأصولية الشعبوية والتطرف الديني في أمريكا وفوبيا العداء للعرب والأجانب في أوروبا، تراجعت معها كل فرص (التفاوض) حسب تعبير هومي بابا بين الهويات المختلفة والأنظمة الثقافية المتباينة، كما تروج لذلك كتابات من الدرجة الثانية حول صراع الحضارات. إن الحاجة الى الاستعانة بأطروحات باختين (1895 1975) حول الحوارية، تعتبر بالغة الأهمية، عندما ينقطع التواصل وتنتشر الخطابات المسكوكة الأحادية التوجه، لقد كان سباقا في زمن الحروب الكبرى والصراعات القومية التي عرفها الاتحاد السوفياتي، وعمليات الضم القسري التي تعرضت لها شعوب البلقان نتيجة لهمينة الايديولوجية البيروقراطية في مراكز القرار السياسي الى الدفاع في تلك الفترة الحرجة على ضرورة احترام المبدإ الحواري. والإنصات الى تعدد الأصوات المتباينة داخل أشكال التعبير الفنية، والانحياز لإيتيقا أخلاقية عند مقاربة ثقافة الآخر. لقد اعتمد باختين في تقعيده للحوارية على المتن الأدبي ممثلا في الجنس الروائي، لكن نظريته لم تقتصر على منهجية محددة، سواء كانت لسانية أو أدبية أو فلسفية، بل هي مجموع هذه المقاربات، ويظهر هذا التكوين متعد الاختصاصات في مسار باختين من خلال الصنافة التي قدمها تيزفيتان تدروف للموضوعات التي اهتم باختين بدراستها (ابستيمولوجية العلوم الإنسانية، نظرية الملفوظ، التناص، تاريخ الأدب، الأنتربولوجيا الفلسفية، البوتيقا واللسانيات). وهذا التعدد في المصادر الفكرية يترجمه المسار العلمي الذي سلكه باختين، الذي عرف باطلاعه الواسع على الفلسفة الألمانية (كانط وهيجل). وتدريسه لنظرية الإستيتيقا، ومعرفته العميقة بعلوم الأديان، التي أثارت حوله شبهة الإيمان الديني والعداء للفكر الماركسي، حيث عوقب بسببها بخمس سنوات منفيا في معسكرات (الكولاغ) بسيبيريا في عهد الحكم الستاليني. نتيجة لثراء المشروع النظري عند باختين، الذي ينهل من منطلقات فسيحة (نقدية، فلسفية أدبية لغوية سيكلوجية) فقد حداول الدارسون الذي أتوا بعده، أن يعيدوا قراءة مشروعه النظري. وأن يستعيدوه بعض الدارسين من مؤسسي علم التداوليات 0البراكمتيك) ورأى الآخرون ف يمبدإ (الحوارية) Dialogisme قراءة دياليكتية بالمعنى الماركسي للخطابات. وتوالت بعد ذلك التصنيفات، من مجرد شكلاني بقناع ماركسي الى ما بعد شكلاني أو ما بعد بنيوي، ليلحقوه فياأخير بقافلة مفكري ما بعد الحداثة. ميز باختين بين العلوم الإنسانية والعلوم الدقيقة معتبرا أن خاصية الحوارية تنفرد بها العلوم الإنسانية، بينما يغلب على العلوم الدقيقة صفة المنولوج أو الصوت الأحادي الذي يبحث في الحقيقة الموضوعية. لقد تعدد أسماء المبدإ الحواري أو الحوارية، (البوليفونيا أو تعدد الأصوات، تعدد الخطابات، التذاوت، التفاعل اللفظي) فعند دراسته للخطاب الروائي، استعمل باختين مصطلح تعدد الأصوات أو البوليفونيا المرتبط بالمعنى الغاليلي للغة التي ينظر إليها كبنية منفتحة على تعدد وجهات النظر لأن الرؤية الباختينية لفلسفة اللغة، تختلف عن المقاربة الوصفية أو البنيوية التي اعتمدت على النموذج السوسوري عند حركة الشكلانيين الروس، التي تنظر اللغة كنظام تجريدي مغلق على ذاته، دون ربطه بمستوى الكلام الفعلي، بينما نجد باختين من أوائل الباحثين الذين دافعوا عن ضرورة الاعتماد على لسانيات الكلام التي ترتبط بالإنجاز، متجاوزا لرؤية النسقية للغة التي كانت تعتبر أن وظيفة التواصل هي مجرد تبادل للإرساليات، تتطلب فقط الخضوع لقواعد اللغة والمعرفة بالسنن le code المشترك بين المتخاطبين حتى تتحقق وظيفة التواصل، بينما ينتقد باختين علاقة التراتب بين المتكلم والمتلقي الذي يتحول إلى مجرد مكون سلبي يتلقى الإرسالية في اتجاه أحادي دون أن يشارك في درة التواصل، ولهذا السبب سيؤكد باختين على زهمية التفاعل اللفظي l interaction Verbrale الذي يعكس علاقة التوتر الحيوي بين الذوات المختلفة (المرسل والمتلقي) كل واحد منهما يحمل موقفا افتراضيا نحو السنن المتبادل بينهما ونظرتهما الى الإرسالية والى سياق التفاعل اللفظي. لقد حدد باختين وجود التفاعل اللفظي أو الحوارية بين المرسل والمتلقي انطلاقا من الوحدة الدنيا ممثلة في (Slovo) باللغة الروسية، التي تترجمها الباحثة جوليا كريستيفا بالكلمة le mot، بينما يفضل تدروف ترجمتها بالملفوظ l enoncé الذي يعرفه (بأنه فعل لفظي ذو وجهين لأنه محدد بطريقة متساوية بين المرسل والمتلقي (المبدأ الحواري ص. 70) وتقترب كريستيفا من هذا المعنى عندما تعرف الكلمة (بأنها لاتحمل معنى جامدا بل هي تقاطع مجموعة من المجالات النصية التي تعكس رأي الكاتب والقارئ والسياق المعاصر لهذه الكلمة والسابق عنها (كريستيفا مقدمة كتاب بويتيقا دستويفسكي، ص 13) أي أن العلامات والألفاظ كوحدات دنيا هي من منظور باختين (ليست حيادية أو خارجة عن تقويمات الآخر وأحكامه. بل هي مسكونة بأرائه ومواقفه (تدروف المبدأ الحواري ص 77) فداخل معنى الملفوظ/ الكلمة، نجد جواب المتلقي، ولا تتحقق دلالة الملفوظات والكلمات بالنظر إليها وكأنها مجرد مدخلات معجمية ترتبط فيما بينها من خلال قواعد تركيبية، بل إن باختين يتعامل مع الملفوظات/ الكلمات على أنها حمالة قيم اجتماعية ومواقف أخلاقية داخل سيرورة حوارية تجري بين الأنا والمخاطب، وموسومة ببصمات المقصدية المتوجهة إلى الآخر ومنغرسة في سياق تلفظي يعكس العلاقة المتداخلة بين المتكلم والمجال السيوسيوثقافي التي تعتبر ضرورية في توليد المعاني والدلالات، وبهذا المعنى تكون الحوارية ملفوظا ثقافيا وجماليا يؤدي الى تمتين التواصل بين المرسل والمتلقي من خلال التبادل في عملية المحادثة، من المرسل الى المتلقي ومن المتلقي الى المرسل، وهذه الشروط الفردية والخطابية والإيديولوجية هي التي تحقق الحوارية في مختلف المستويات التجريدية التي يسميها باختين بتعدد الخطابات Heteroglosie. إن الواقع الاجتماعي بانسبة لباختين هو مجال النسبية، تتغير فيه مدلولات القيم والمرجعيات نظرا لارتباطها بالواقع المادي مؤكدا على ضرورة التعامل مع الذات كهوية مسؤولة عن أفعالها عندما تقدم جوابا عن موقفها من الأحداث. لأن أخلاق المسؤولية حسب باختين ليست قيما معيارية متعالية عن الواقع بل إنها مرتبطة بالذات التي تلتزم بهذه القيم في إطار سيرورة لصيقة بالواقع الملموس. لقد عرفت نظرية الحوارية انتشارا واسعا في مجال الدراسات الأدبية من خلال مصطلح (التناص) الذي وضعته جوليا كريستيفا، لكن تأكيد باختين على البعد الإيتيقي للممارسة الحوارية أدى الى توظيفه في مجالات ثقافية متعددة، ففي الفصل السابع من كتاب تدروف (المبدأ الحواري) المعنون (بأنطربولوجيا فلسفية) يبين فيه أهمية الحوارية في علاقتها بموضوع الغيرية أوالآخرية l alterité متجاوزا بذلك الرؤية التقليدية التي دعا إليها الخطاب الأنتربولوجي التقليدي الذي نظر الى الآخر كعنصر مناقض وفي وضع تضاد مطلق مع الذات والأنا. أما بالنسبة لباختين فإن العلاقة بين الأنا والآخر هي علاقة تذاوت intesubjiction لاينفصلان، لأن كل (أنا) تستدعي بالضرورة حضور (أنت) وكل (أنت) يتطلب وجود (الأنا)، إن الذات من خلال المنظور الباختيني، تتجاوز الرؤية المركزية للأنا، لأنها مندمجة في شبكة من العلاقات الحوارية المتبادلة بين الأنا والآخر، حيث يفقد معنى الهوية أبعاده الميتافيزيقية، التي تنبني على تراتبية فوقية وتماسك الذات المنغلق على تفرده الخصوصي، بينما نجدها عند باختين تتحول الى ملتقى أو موقع عابر للخطابات التي تخترق الهوية. إن الأنا لايمكن إدراكه إلا بحضور الآخر. مادام الأنا والآخر لايمثلان هويتين مكتملتين، ولايمكنهما أن يكتملا إلا بوجود الآخر، نافيا بذلك وجود ذات مستقلة أو هوية ممتلئة حتى عندما ننظر الى ذواتنا في المرآة أو في البومات صورنا الشخصية، وهذه الرؤية الدينامية للأنا المتشظية والمبعثرة نجدها قريبة من مفهوم تشكيل الذات في مرحلة المرآة عند جاك لاكان. إن الشخصية الإنسانية حسب باختين، تحقق نشأتها الثانية، بعد الولادة الفيزيقية من خلال أفعالها التي تنجزها في الحياة. وانتمائها الطبقي وتكوينها الثقافي. فقد يولد الفرد برجوازيا، أو برويتاريا، قد يكون فرنسيا أو روسيا وهذه الشروط هي التي تحدد (مضمون إبداعه الشخصي والثقافي). يضيف باختين الى علاقة التذاوت الحوارية بين الأنا والآخر، مفهوما ثالثا يسميه (بالمتلقي الأعلى) الذي ترجمه تدروف (بالموقع الخارجي Extopie) محيلا بذلك الى قدرة الأنا أن توجد خارج ذاتها. وأن تتخلى عن مواقفها التأويلية الأولى. لكي تفهم الموضوع المدروس من خلال اتخاذها مسافة بعيدة عنه. حتى يتسنى للأنا مقاربته بموضوعية وتجرد، وذلك عبر استراتيجية تجعل الأنا في البداية تنصت الى الآخر لكي تتمثله وتحتضنه، ثم بعد ذلك يتم قلب هذه الاستراتيجية عن طريق إشراك وإدماج آرائه وتوجيهها لصالح الآخ، أما في المرحلة الثالثة من استراتيجية القراءة التأويلية من الموقع الخارجي، فإنها تراهن على تغيير صورة عن ذاتها وإدراكها لنسبية أحكامها الجاهزة، ومحدودية حقائقها التي كانت تؤمن بها قبل أن تلتقي بالآخر، وهذه السيرورة التأويلية تعبتر أعلى مراحل التواجد في الموقع الخارجي، لأنها تحررنا من الرغبة في التطابق مع الأنا والتماهي مع ذات الآخر. وتفصلنا عنهما معا. محققة بذلك الفهم المتبادل بينهما بطريقة عادلة وديمقراطية. كنموذج لهذه المقاربة الذكية في توظيف مفهوم (الموقع الخارجي) نجده عند تدروف في (فتح أمريكا مسألة الآخر. ترجمة بشير السباعي) حيث قام بتوسيع حقله الدلالي ليشمل ثلاثة قيود تحدد علاقتنا بالآخر (هناك أولا حكم قيمة ( أو المستوى القيمي) فالآخر يمكن الحكم عليه بأنه حسن أوسيء، وبأني أحبه أولا أحبه، أن يكون ندا لي أو أدنى مني مرتبة، وهناك ثانيا، فعل التقارب أو فعل التباعد في العلاقة مع الآخر (مستوى عملي)؛ فأنا أتبنى قيم الآخر أو أتوحد معه أو أشبه الآخر بنفسي، وأفرض عليه صورتي الخاصة. كما أن بين الخضوع للآخر وإخضاع الآخر حد ثالث أيضا هو الحياد أو اللامبالاة، وثالثا فإنني أعرف أو أجهل هوية الآخر (سيكون ذلك هو المستوى المعرفي) ومن الواضح أنه لايوجد هنا أي مطلق بل تدرج لانهائي في حالات المعرفة الأبسط والأرقى، ص. 209). لقد وضع باختين الأطر التقعيدية لمقاربة الآخر. واستطاع تدروف من خلال تمرينه التطبيقي في (فتح أمريكا) أن يفكك علاقة التذاوت بين الغزاة والمحتلين من خلال استنطاقه للنصوص المكتوبة، للوصول الى المسكوت عنه في الخطاب الاستعماري الذي عمل على الترويج لأساطير عن السكان الأصليين ترمي الى خداعهم وتطويعهم من أجل السيطرة عليهم، لأن المستعمر لم يعتمد في شرعنة احتلاله على التفوق العسكري وحده. بل إن أداته لتحقيق هذا الغزو، كانت بواسطة السيطرة على المجال الثقافي والحضاري للآخر. عبر مجموعة من الإسقاطات والتمثلات التحقيرية التي تؤطر صورة دونية عن المغلوب من أجل تبرير استعباده، لكن تدروف لايساير هذه الحيلة التي تقصي المغلوبين وتجعل منهم ذاتا صماء بدون مقومات حضارية حسب معايير الإيديولوجية المركزية التي اعتمدها الغرب في حملاته الاستعمارية، مؤكدا من خلال الإنصات للسكان الأصليين، وبعيدا عن ثنائية المجتمعات الأرقى أو الأدنى، بأن المغلوبين كانت عندهم دائما رؤيتهم الخاصة للحضارة المختلفة عن رؤية الغزاة يستطيعون من خلالها تدبير علاقتهم بالطبيعة وقضايا الوجود قد تكون مغايرة لكنها ليست أدنى مرتبة منها. لقد قمنا في هذا الكتاب بترجمة مجموعة من الأبحاث من اللغتين الفرنسية والإسبانية من أجل التعريف بالنظرية الحوارية في المجال الأدبي وفي الخطابات السيميائية وكذلك وهذا هو الأهم لكي نرفع الحصار عن باختين والتهميش الذي مورس عليه من طرف أصحاب القرار السياسي ومن طرف معاصريه سواء كانوا من فريق الشكلانيين الروس أو من الاتجاه الماركسي الأرتودكسي، وكان ذلك دافعه الى المناورة النبيلة من أجل نشر أفكاره عبر أقنعة أصدقائه (مادفيف بولوشينوف) مبرهنا على صدق نظريته الحوارية التي تؤمن بأن الأفكار والنظريات، مهما كانت قيمتها العلمية، فإنها لاترتبط بصوت واحد وحيد، بل هي نتاج لعلاقة الصداقة والتشارك والحوار مع الآخرين.