حديث الجمعة: الاستبداد والتبشير والأقليات أدوات التدخل الاستعماري في العالم الإسلامي…؟ * بقلم // ذ. محمد السوسي كان الاستبداد ولا يزال هو الآفة التي دخلت وتدخل منها الشرور والمفاسد التي تصيب المجتمعات، وتؤدي بها إلى الإنهاك والانهيار، وطالما تحدثنا في هذا الركن عن هذا المرض المزمن الذي أصاب المجتمعات الإسلامية، وأفضى بها وبالمسؤولين فيها في كثير من الأوقات إلى أوضاع ساد فيها الصراع وسفك الدماء وضياع الحقوق، وانتهاك الأعراض ونهب الأموال والثروات، والتاريخ الذي لا نقرأوه ولا نستوعبه سجل هذا بأوفى بيان وبالتفاصيل التي يشك الإنسان في بعض الأحيان أن الناس بلغت بهم الأطماع وحب السلطة والتسلط إلى تلك الدرجة من الانحدار والسقوط. ومع أن النصوص التي اعتبرها المسؤولون في ديار الإسلام هي المبررة لوجودهم وشرعيتهم وهي (البيعة) مقيدة في الفقه وفي النصوص بضوابط يجب الالتزام بها فعندما بايع الأنصار الرسول عليه السلام ونحن نعيش موسم الهجرة بايعوه كما يقول كتاب السيرة بيعة النساء وبيعة النساء هي الواردة في قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰ أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» هذه البيعة التي تلزم الجميع حكاما ومحكومين في الإسلام ولسنا في هذا المدخل بصدد الحديث بالتفصيل ولكنها واضحة بينة مع الأوامر التي جاء في صريح الكتاب من الحكم بالعدل وحفظ الأمانات والشورى بين المؤمنين ومراعاة الحقوق التي تضمنتها الآيات القرآنية ومقاصد الشرع الحكيم والسنة. إن هذا الزاد الهائل من النصوص التي تضمن علاقة المسلمين بعضهم ببعض وتوضح العلاقات بينهم وبين غيرهم من أرباب الديانات الأخرى أطاح بها الاستبداد الذي عرفته ولا تزال تعرفه المجتمعات الإسلامية، ورغم بعض مظاهر الديمقراطية الشكلية هنا أو هناك فإن الاستبداد والاستئثار بالسلطة هو الطابع السائد في المجتمعات الإسلامية. مما يسر لمن يريد أن يعبث في هذه المجتمعات أن يجد السبل ميسرة لذلك، ولهذا لا نستغرب أن تكون الأوضاع في العالم الإسلامي على ما هي عليه، إذ الناس الذين على سدة السلطة يرفضون أن يشركوا غيرهم من الناس في تدبير الشأن العام الذي هو منوط أمره بالجماعة المستوطنة لبلد من البلدان، ولكن الناس يرون أن ما هو بين أيديهم من الأمور لا يحسن غيرهم أمر تدبيرها، ولذلك فهم يفكرون ويقررون نيابة عن الجميع. إن هذا الواقع الذي حاول الكثيرون في مختلف مراحل تاريخ الإسلام أن يصلحوه عن طريق النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفق شروطهما فلم يفلحوا حاول البعض كذلك بالأسلوب العنيف فكانت الأوضاع أشد وأقسى لا يمكن أن تعالج إلا بالعودة إلى الأسلوب الذي ارتضاه الإسلام للمسلمين وهو أمرهم شورى بينهم والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة. وإذا كان الواقع في المجتمعات الإسلامية هو واقع ثقافة وقناعات فإن الثقافة السائدة هي الثقافة المتشبعة بالقيم الإسلامية وكل محاولة لفرض قيم وثقافات أخرى إنما يتم من خلالها تأخير الإصلاح وإعطاء الفرصة لمن يريد أن يصطاد في الماء العكر، لخلق أوضاع تعود بالأمة عقودا إلى الوراء لقد كانت الحركات التحريرية والوطنية وهي تقاوم الاستعمار تنهال من هذه الثقافة وتعد الناس بالرخاء والديمقراطية وبالشورى، ولكن بعد الاستقلال كانت أوضاع أخرى. إن ما يجري في البلاد الإسلامية وما يهيأ لأخرى من صراع واشتعال الفتن المذهبية والأثينية وخلق الأقليات والدفاع عن التنصير باسم حرية المعتقد هو الأسلوب الذي مارسه ويمارسه أعداء الأمة منذ قرون وهو ما لا يزالون يمارسونه ولا علاج لذلك إلا بالديمقراطية الحق والالتزام بإرادة الشعوب واحترامها هذا ما يقوله التاريخ وما يوضحه الواقع وفي الحديث أدناه حديث عن دور الأقليات والتنصير في بلبلة المجتمعات الإسلامية. مواجهة مستمرة ومما لا شك فيه أن بسط ألوية الإسلام على أجزاء العالم القديم ومنها أوربا لم يكن يلقى الترحاب لدى الغرب بل كان معرضا للمقاومة المباشرة وبكل الأساليب التي أتيحت لأوروبا ومن بينها الدس والتآمر والكيد وكانت أهم معارك هذه الحرب ما عرف بالحروب الصليبية، التي أتاحت لأوروبا أن تحتل أجزاء من البلاد الإسلامية في الشرق قرابة مائتي سنة وبالأخص مدينة القدس التي بقيت محتلة من لدن الصليبين لمائة سنة. ولكن منذ ذلك الحين وموجات الهجومات والاجتياحات تتكرر على مختلف البلاد الإسلامية تارة تستقر لأعوام و أخرى لعقود إلى أن استقرت في القرون الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين مما دعا إلى قيام الثورات والحروب من أجل التحرر من الهيمنة الأجنبية. التسامح والأقليات وقد أشرنا في أحاديث سابقة في هذا الركن إلى ما كان يوفره الإسلام لأرباب الأديان الأخرى والمذاهب والطوائف من الحرية والتسامح، ولكن مع ذلك أبى الغرب إلا أن يبحث لنفسه عن منافذ يدخل منها إلى العالم الإسلامي والمجتمعات الإسلامية وكانت الأقليات الدينية والعرقية بابا وليست نافذة فقط حاول الاستعمار استغلالها استغلالا بشعا، وهكذا ابتكر الاستعمار مبدأ الدفاع عن الأقليات وحمايتها لفرض نظام الامتيازات على الحكومات الإسلامية. الدول الحاكمة وإذا كان العالم الإسلامي في هذه المرحلة ينقسم فيه إلى ثلاث مجموعات حاكمة أو دول حاكمة فإن التدخل في شؤونها بإدعاء حماية الأقليات كان عاما والدول التي أشير إليها هي الإمبراطورية العثمانية، والإمبراطورية الشريفة في المغرب و الإمبراطورية الإيرانية في إيران وما حولها، ولاشك أن السلطنة العثمانية كانت سنية وأكثر اتساعا من حيث المساحة وكثرة الأقاليم التابعة لها. تليها السلطنة الشريفة في المغرب وكانت سنية كذلك أما الدولة الصفوية في إيران أو القجرية فيما بعد فكانت شيعية. وإذا كان التدخل الأجنبي في المجموعة يكاد يستعمل نفس الأسلوب والمنهج فإننا في هذا الحديث سنكتفي ببعض النماذج من التدخل في شؤون الدول الإسلامية وبصفة خاصة الدولة العثمانية باعتبارها الدولة التي كانت توجد تحت نفوذها شعوب تدين بالمسيحية الذي اعتمد على أمرين اثنين وأساسين هما: 1 – التبشير. 2 – الاقليات وسنخص كل واحد منهما بشيء من التفصيل 1 – التبشير أو التنصير ما فتئ النصارى يسعون بكل الوسائل للتأثير على المسلمين عن طريق محاولة تنصيرهم والقيام بما يسمونه البشارة أو التبشير وكانت الدول الأوروبية تساند وتجهز وتمول الارساليات التبشيرية وفي هذا الصدد يقول د. عمر فروخ و د. مصطفى خالدي في كتابهما عن التبشير والاستعمار: (ص:128 وما بعدها) إثارة الحروب بعد أن عملت الدول الأجنبية زمنا طويلا على تأييد إرسالياتها التبشيرية في الشرق قويت تلك الإرساليات فعادت هي بدورها تعمل على تأييد دولها. ولكن المبشرين لم يستطيعوا ذلك إلا عن طريق إثارة الاضطرابات في بلادنا، ولذلك عمدوا إلى إثارة اضطرابات مختلفة وحرصوا على «إذكاء العداوة بين الذين كانوا يبشرون بينهم». وعلى أن يفسحوا المجال أمام دولهم للتدخل في بلادنا». خلق الأسباب وكان أول ما خطر للمبشرين ان يخلقوا في الإمبراطورية العثمانية أسبابا تقود إلى الحرب، لأن الحرب تضعف الدولة العثمانية فيضعف سلطانها على رعاياها، فيجد المبشرون حينئذ من ضعف الدولة العثمانية منفذا إلى التبشير بين المسلمين. ولقد كانت أكثر الحروب التي شنتها أوروبا من قبل على الدول لإسلامية دينية في أساسها كالحروب الصليبية والحروب في الأندلس. وكذلك في القرنين التاسع عشر والعشرين كانت حروب الدول الغربية المشنونة على الإمبراطورية العثمانية متميزة بعامل ديني». قال لورنس براون. حروب عدوانية «وكذلك شنت الدول الأوروبية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين حروبا عدوانية على الحكومات المسلمة، ثم انتزعت منها أراضي ضمتها إلى سلطانها هي، ولقد كانت النتائج في أحوال كثيرة غير سارة لبعض الشعوب التي استبعدت، وخصوصا من المسلمين ولكن هذه الشعوب لم تصل بعد إلى درجة تشعر فيها أنها أصبحت أقليات مضطهدة، أو أنها تعيش في حابورات» (الملاح) اما غاية الدول الأجنبية من محاربة الدولة العثمانية فكانت، كما يراها المبشرون أيضا، «لعل الله الرحيم يضرب الأتراك بسيف قدرته الجبارة». إن هذه الرغبة في ضرب الدولة العثمانية لم تكن في الواقع موجهة لهذه الدولة وحدها ولكن المجتمعات الإسلامية ودولة كلها كانت مستهدفة، غير أن الدولة البارزة هي تلك ولم يكن ما كان يعانيه المغرب من الأطماع والدسائس بعيدا عن هذا وإذا كانت الدول اليوم كثيرة بعد ما حصل اثر معاهدة "سايكس بيكو" فإن الواقع ازداد ضراوة وبالأخص ما تقوم به الدول الغربية حاليا. وإذا كان الدور الأمريكي اليوم بارزا فقد كان التمهيد له من قبل وفي هذا الشأن يقول صاحب الكتاب المشار إليه: أمريكا والتبشير في عام 1920 أصدرت لجنة التبشير الأمريكي، التي تهتم بالاستفادة من مناسبات الحروب للتبشير، كتابا ذكرت في مطلع مقدمته ما يلي: من أبرز الأمور المتعلقة بدخول الولاياتالمتحدة في الحرب العالمية (الأولى) ان الآراء والمبادئ التي كانت تهدف إليها الإرساليات التبشيرية قد تبنتها الآن الأمة (الأمريكية)، ثم أعلنت أنها هي أهدافها الأخلاقية وغاياتها من خوض تلك الحرب، ثم أعلنت أنها هي أهدافها الأخلاقية وغايتها من خوض تلك الحرب… ان هذه المبادئ التبشيرية قد سميت الآن أسماء سياسية فقط». قيم تنصيرية وهكذا ندرك أن الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن لم يكن مخطئا ولا كان خطابه زلة لسان عندما أعلن و شن الحرب الصليبية في خريف 2001 بل كان يقصد ما يقول، وكذلك عندما غزا العراق عام 2003 وحمل الجنود الأمريكيون الأناجيل معهم لتنصير العراقيين فهم في حروبهم يقومون بحرب تبشيرية صليبية وما يدرينا ما ستكون نتيجة حربهم الآن على ليبيا وسورياوالعراق واليمن والبقية تأتي. ثورة عبد الكريم والشعور الأوروبي اشرنا في الفقرة أعلاه إلى ما كان يكابده المغرب مع الصليبية الغربية ونورد هنا ما كتبه صاحب الكتاب في شأن الغرب النصراني وثورة محمد بن عبد الكريم الخطابي. ولما ثار الأمير عبد الكريم في ريف مراكش على اسبانية أقلقت ثورته جميع الدول الغربية، فتراكضت هذه الدول إلى مساعدة اسبانية على التغلب على عبد الكريم زعيم القوة العربية الثائرة، كما وصفوا حركته يومذاك. ولقد علق المبشر وليم كاش في كتابة «العالم الإسلامي في ثورة» على هذه الحرب بالكلمات التالية: الحماسة القديمة لقد التقى الأسبان بالحماسة العربية القديمة واضطروا إلى ان يخلوا، من مناطق نفوذهم، موقعا بعد موقع، حتى أصبحوا يحاربون وظهورهم إلى البحر مباشرة وعلى وشك أن يخرجوا من شمالي افريقية مرة واحدة. وهكذا نجد للمرة الثانية منذ الحرب العظمى (1914 – 1918) أن دولة أوربية يتغلب عليها جيش مسلم، فلقد اتفق أيضا لثلاث سنوات خلت أن مصطفى كمال طرد اليونان من آسية الصغرى وتحدى بذلك سلطان أوروبا القوي». ويفصح هؤلاء المبشرون عن التوجيه الذي كان والذي لا يزال مستمرا فيما يلي: مراكز إستراتيجية بعدئذ ينصح وليم كاش جماعته فيقول: «قبل هذه التطورات، التي طرأت على العالم الإسلامي بعد الحرب العالمية الأولى، كان المبشرون قد اتخذوا مراكز إستراتيجية في العالم الإسلامي، واستطاعوا في أثناء الثورات والحروب والاضطرابات ان يتابعوا عملهم بهدوء وثبات. ولقد كتب هذا الكتاب الصغير ليدل على هذه التطورات التي حدثت وليبين للكنائس تلك الحاجة الملحة للتقدم بمشروعها في يوم الفرصة السانحة». استغلال الحروب للتنصير وعن الحرب العالمية الأولى والتبشير يقول الكاتبان: إننا نعلم علم اليقين أن حربا كالحرب العالمية الأولى (1914-1918) لا يمكن أن تثور في سبيل التبشير وحده، بل يجب أن يرجع نشوبها إلى عوامل اقتصادية وسياسية بحت، ولكن ثمت شيئين يثيران اهتمامنا نحن في كتابنا هذا، أولهما أن الدول المتحاربة لا تتورع في سبيل ظفرها عن أن تستفيذ من كل حزب وجماعة، ولذلك استغل المبشرون أحوال الحرب فاستفادوا من الحرب بطريقة غير مباشرة، وثاني ذينك الشيئين أن الدول التي تبغي الاستعمار إنما تبغيه في الشرق، لما في الشرق من الثروات الاقتصادية والمراكز الحربية. وقد اتفق ان يكون العنصر الإسلامي من أقوى العناصر التي تدافع في الشرق كل مستعمر بكل سبيل. ولذلك اتفقت غايات الحروب الاستعمارية وغايات التبشير وتوحدت في حروب تثار ظاهرا باسم الاقتصاد والسياسة وباطنا للاستعمار وللقضاء على العناصر التي تجعل استغلال الشرق مستحيلا. لطالما تحدث الناس عن الحروب التي تخوضها الدول الاستعمارية مباشرة أو بالوكالة كما يقال من الخلفية الاقتصادية لهذه الحرب، ولكن لا يستطيع الإنسان أن يعيد الجانب الديني عن هذه الحرب، فالأقليات والتوجهات للفئات الغالية من جانب كل ذلك يعوذ بنا إلى دائرة الاستقطاب العقدي والديني. أوروبا والحروب الدينية إننا في العالم الإسلامي لم نتعلم من كل الحروب التي شنت علينا من طرف أوروبا ولا نزال ننظر إليها نظرة بريئة بينما هي لها أهداف متعددة والأهداف الدينية من أهمها وفي هذا يقول الكاتبان وهما يوضحان العلاقات حتى في الحروب بين الدول النصرانية: «ولا تزال أوربا إلى اليوم تنظر إلى جميع حروبها نظرة دينية. ان انكلترا المسيحية لا تحارب اليونان المسيحية لأن اليونان ألقت بقيادها إلى انكلترا، ولا يمكن لملك اليونان الانكليزي النسب ان يعارض السياسة الانكليزية في البلقان كله وفي اليونان خاصة، وإذا اتفق ان حاربت انكلترا المسيحية ايطالية أو ألمانية فلأن ميدان النزاع يكون حينئذ اقتصاديا استعماريا». إثارة الفتن من أجل ذلك لم تكن «إثارة الحرب» بين الدول الكبرى دائما وسيلة عملية للمبشرين لأنها قد تقود إلى أضعاف دولة مسيحية. وهكذا انصرف المبشرون إلى البحث عن أمر آخر يكون أقرب تحقيقا لأهدافهم فوقعوا على «إثارة الفتن والاضطرابات». وإذا نحن أدركنا أن الصلة كانت بين السياسين وبين المبشرين وثيقة دائما لم نستغرب أن تنهز الدول المستعمرة مثل هذه الفرصة للتدخل في الشرق». 2 – الأقليات وإذا كان التنصير باديا للعيان فيما حصل من حروب في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين حيث كانت ملآت آلالاف من الأناجيل توزع فإن ذلك يدعوهم بالأقليات وإثارة الفتن بواسطتها ولذلك فإن الأمر الثاني الذي اعتمدت عليه الدول الاستعمارية للتدخل في شؤون الدول الإسلامية وفرض السيطرة عليها فهي مساندة الأقليات وحمايتها، وقد تم التوسع في هذا المجال وتم التدخل في العراق لحماية المواطنين وفي ليبيا لحماية المدنيين والنتيجة في العراق معروفة ولن تكون النتيجة في ليبيا إلا في نفس السياق أو أسوأ لا قدر الله. وفي هذا الموضوع استغلال الأقليات لإسقاط الدولة العثمانية وتفكيكها يقول مؤلف كتاب (صحوة الرجل المريض) موقف بني المرجة (ص:181 وما بعدها). وقد جعلت تلك الحماية للأقليات مركزها حرجا تجاه الأغلبية الإسلامية فأخذت تنظر إليها بحيطة وحذر وتتعامل معها وكأنها مهيأة للتواطؤ والتآمر والخيانة مما أدى إلى العديد من التفجيرات الاجتماعية المؤسفة. الاثنية والمذهبية والملاحظ أن معظم أفراد الأقليات سارعوا للانفتاح على الغرب وتبني عاداته واستيعاب ثقافته والتبشير بأفكاره وإتقان لغاته بل وتمثيل وكالاته ومصالحه في أحيان كثيرة وإذا كان الغرب الإسلامي ليس فيه أقليات دينية كثيرة العدد فإن الاستعمار بحث عن عامل فرقة فوجده في القبلية أو الاثنيات، فعمد عن طريق إرسالياته التبشيرية إلى البحث عن نقاط الضعف والسعي لتعميق الثغرات العنصرية والمذهبية والطائفية لإذكاء الخلافات وإثارة المتاعب وإيجاد الذرائع التي تبرر تدخلاته الخارجية في شؤون الدولة الداخلية مما اضطر العثمانيين لسد جميع الثغرات والإطاحة بمراكز القوى وهكذا تم التخلص من الإمارات العلوية والتركمانية والكردية كما أحكمت السيطرة على الدروز وأحبطت الآمال بإقامة مملكة أرضية أو دولة مارونية. قيام إسرائيل والأقليات: لقد كان ميلاد دولة إسرائيل على أرض فلسطين فرصة جديدة لإثارة النعرات المذهبية والطائفية والأقليات وفي هذا يقول الكاتب: «ورغم الجمود الذي أصاب الحركات والدعوات المستندة إلى فكرة الأقليات في أعقاب إلغاء الخلافة العثمانية ووقوع الوطن العربي فريسة للانتدابين الفرنسي والانكليزي حيث لم يعد ثمة مبرر لممارسة لعبة الأقليات المثيرة رغبة في استقرار الأوضاع لصالح الدول المحتلة وان كانت اللعبة ضرورية من حين لأخر كسلاح يهدد الوحدة الوطنية، إلا أن قيام «إسرائيل» ككيان عنصري في فلسطين جعل من الضروري إحياء فكرة الأقليات على أمل إقامة العديد من الكيانات المصطنعة لتبرير بقاء « إسرائيل» في المنطقة، وقد أخذت« إسرائيل» على عاتقها بدلا من الدول الغربية تغذية وإثارة المشاكل العنصرية والطائفية والإقليمية وظهرت بمظهر المتعاطف مع كل الأقليات المضطهدة ولكي ندرك المدى البعيد الذي وصلته لعبة الأقليات في البلاد العثمانية عامة وفي لبنان بشكل خاص يقول الكاتب نذكر المواقف التالية: واقع 159 عاما «فقد بعث القطب الماروني المعروفي في شمال لبنان يوسف بك كرم رسالة إلى البطريرك الماروني بوليس مسعد (عام 1857م) ورد نصها في كتاب «تاريخ لبنان العام» وفيها يشكو من الصراعات الطائفية وترابطها بالمصالح الدولية فيقول: (لقد أصبحت أمورنا في هذه الأيام تابعة لانكلترا أو فرنسا وإذا ضرب احدهم داره تصبح المسألة انكليزية فرنساوية وربما قامت انكلترا وفرنسا من اجل فنجان قهوة يهرق على أرض لبنان). ان هذه الرسالة التي كتب منذ 159 عاما كأنها كتب اليوم وهي تصور التدخلات الأجنبية في لبنان التي حالت دون قيام اللبناني بانتخاب رئيس وبرلمان وحكومة. إثارة الفتن: ولم يمض على هذه الرسالة أكثر من ثلاث سنوات حينما اشتعلت الفتنة الطائفية التي إكتوى لبنان بنارها وسقط فيها الآلاف من المارونيين والدروز عام 1860م (12 ألفا على إحدى الروايات) فقد كانت فرنسا تسلح المارونيين وبريطانيا تسلح الدروز وكلتاهما تتصارعان على النفوذ في لبنان بعد احتضار «الرجل المريض» كما رفع أهالي بلدة كوسب التابعة لقضاء الكورة في لبنان عريضة ممهورة بتواقيع عدد كبير منهم عام 1920 م يطالبون فيها بأن يكون رئيس الحكومة منتخبا في المجلس النيابي لمدة خمس سنين «ومن رجال دولة فرنسا المحبوبة التي طلبنا مساعدتها وإشرافها على حكومتنا لثقة الجميع بعدالتها ومقدرتها على إجراء الإصلاحات». دعوة للدخل وفي الفقرة التالية يتحدث الكاتب عن واقع لا يعني لبنان فقط ولكنه في واقع الأمر هو الوضع البئيس الذي تعيشه أغلبية المجتمعات الإسلامية. «وبعث المسيوف. دويارك قنصل فرنسا العام في سوريا رسالة إلى وزير الخارجية الفرنسية المسيو جورج بيكو، محفوظة ضمن وثائق وزارة الخارجية الفرنسية 20 أيلول سبتمبر 1908 م جاء فيها: ان مجمل الموارنة الذين يشكلون بدورهم الأكثرية يأملون في التمسك بها وبالعقود الدولية التي تختص بلبنان وهناك قلق عام من خسارة امتيازاتهم والأغلبية الساحقة ترفض اشتراك اللبنانيين في الانتخابات الشرعية). افتعال مشكلة الأقليات: ومشكلة الأقليات لم يكن لها وجود أصلا في ظل نظام «الملة العثماني»الذي يستمد أحكامه من حقوق أهل الذمة الإسلامي ولكن دول أوروبا بإرساليتها ومستشرقيها أشعلت هذه الفتنة بل ان يعضها ساهم في زيادة هذه الأقليات وتعقيد مشكلاتها كما فعلت روسيا القيصرية في سبتمبر 1863 م حين استولت القوات الروسية بقيادة الأمير سوماركوف على بلاد الشركس (الداغستان) في القوقاز لعدم وصول أية مساعدات خاصة فاضطر العثمانيون لدعوة الشركس للهجرة إلى ديار إخوانهم فتجمعوا على السواحل وانتشر بينهم الجدري فمات كثير منهم بالوباء كما انتشر القحط وهاجر ستون ألفا منهم وقدمت لهم الدولة العثمانية المساعدة ثم انذرهم نائب القيصر عام 1864 م فهاجر منهم 380 ألفا التحق المحاربون الأشداء بالجيش العثماني ورقوا إلى رتب عالية منها قيادة الجيش والولاية والوزارة والصدارة العظمى فأخلصوا للسلطان إخلاصهم لوطنهم القوقاز بعد أن أصبحوا مواطنين في الدولة الإسلامية ولكن الدول الغربية عملت على تحريك النعرة القومية فيما بعد وجعلت من الشركس عدة أقليات داخل البلاد الإسلامية». إسرائيل على خطة لعبة الأقليات: وهذا يذكرنا بالدور الذي تلعبه روسيا حاليا في الصراع الدائر في العالم الإسلامي. وقال كليمنصو رئيس وزراء فرنسا في مذكراته: «كان أصدقاؤنا الانكليز اسبق منا في التنبه إلى موضوع الأقليات المذهبية والعرقية في بلاد المشرق العربي وقد اتفقت وجهتا نظرنا كليا حول هذا الموضوع. كما قال ناحوم جولد مان رئيس الرابطة اليهودية العالمية في خطابه بباريس بمؤتمر اليهود المثقفين عام 1968: «إذا أردنا لإسرائيل البقاء والاستقرار في الشرق الأوسط علينا أن نفسخ الشعوب المحيطة بها إلى أقليات متنافرة تلعب إسرائيل من خلالها دورا طليعيا وذلك بتشجيع قيام دويلة علوية في سوريا، ودويلة مارونية في لبنان، ودويلة كردية في شمال العراق». المخطط الجديد ويبدو أن لعبة الأقليات لم ينته دورها بإسقاط عبد الحميد الثاني ولا بإلغاء الخلافة العثمانية، وتمزيق الوطن العربي إلى أكثر من 20 دولة بل حتى ولا بإقامة كيان «إسرائيل» فما زالت اللعبة في أولها والمخطط الإسرائيلي الذي تمت الإشارة إليه أعلاه هو الذي لا يزال ينفذوا دعم بانفرارات التي اتخذها الاسرائليون وحلفاؤهم في الغرب ومنظروا السياسة الاستعمارية مثل "برنار لويس" ومخططه التقسيمي أن اللعبة لا تزال مستمرة على نفس النهج وبوثيرة اكبر مما كان متوقعا. وهكذا ومن خلال هذا العرض للتبشير و لنماذج من استغلال الأقليات العرقية أو الدينية أو المذهبية نلاحظ أن الغرب الاستعماري على اختلاف مشاربه يركب على هذه اللعبة ولا يزال وذلك لإنهاك الأمة الإسلامية وإضعافها، ومع ذلك فإنه ورغم التنبيه والتحذير وتوضيح المخاطر المترتبة عن ذلك فإن المسؤولين في المجتمعات الإسلامية لم تستطيعوا أن تجدوا الحلول التي تبعد مخاطر هذه القنابل الموقوتة والمستعملة من طرف الخصوم بل أكثر من ذلك فإن الأغلبية من المسؤولين أن لم يكن الكل قد وقعوا ضحية قناعات وأوضاع تؤجج الصراع ولا تسعى لإيجاد الحلول لانهائية. حديث الجمعة: الاستبداد والتبشير والأقليات أدوات التدخل الاستعماري في العالم الإسلامي…؟