في النظرة الأخيرة تحدثنا عما جاء في المرافعة والذي تناول باستغراب وبشيء من العطف والرفق السياسي بالدولة الاستعمارية سابقا التي وصفتها المرافعة كما سبق (أنها تجمع وصفتها جمعا مفارقا في بعض الأحيان) «لاحظ بعض الأحيان - بين ايديلوجية جمهورية لائكية وايديلوجية تبشيرية إنجيلية». لقد حاولت المرافعة كما أشرنا سابقا أن تلطف الحديث وأن تخفف من تبعات السياسة الاستعمارية التنصيرية التي تقودها الدول الاستعمارية قديما وحديثا. وإذا كنا اشرنا في النظرة الأخيرة إلى بعض التصريحات الصادرة عن بعض المسؤولين المدنيين والعسكريين في هذه الجمهورية التي تحمل (ايديلوجية جمهورية) وان شئت الدقة قلت «العلمانية» التي لم تصرح بها المرافعة. والحقيقة أن هذه الايديلوجية الجمهورية المحببة لدى البعض رفض الساسة الفرنسيون تطبيقها في المستعمرات التي كانوا يحتلونها وليسوا في ذلك خارج القاعدة الاستعمارية بل إنما كانوا ينهجون النهج المطلوب والذي حدد سلفا ومنذ الحروب الصليبية، ولعله مما يفيد في توضيح الالتزام بايديلوجية الإقصاء لعقائد ودين الإنسان المستعمر (بالفتح) السياسة التي طبقتها هذه الجمهورية في كل الأقاليم الإسلامية التي استعمرتها شرقا وغربا. إن هذه السياسة الاقصائية والمحاربة للإسلام بصفة خاصة دفعت بجمعية العلماء المسلمين في الجزائر إلى مطالبة حكومة الجمهورية بفصل الدين عن الدولة، لقد كان الأجدر بالمدافعين عن قانون 1905 أن يطبقوه في الجزائر ولكن العكس هو الذي حصل فأصبح علماء المسلمين يطالبون بتطبيق هذا القانون على المواطنين في الجزائر. إن السياسة الاستعمارية والتنصير أمران متلازمان وليس الأمر مجرد عطب حصل في السياق العام لسياسة «الجمهورية» وحتى نكون منصفين فليست الحكومة الفرنسية وحدها في هذا السياق التنصيري، ولكنها نفس السياسة المتبعة من لدن كل الدول الاستعمارية الأوروبية، وكلها لها إرساليات ترعاها وتنفذ سياستها وتعين الخبراء وضباط الاتصال بين هذه الإرساليات وبين المسؤولين الحكوميين وهذا كما قلت ليس سرا بل هو مكتوب ومنشور يقرأ ويذاع بين الناس، فالناس اليوم يعرفون أن الحملة على العراق أخيرا كانت مرفقة بالإنجيل وبالمنصرين وإن كان هذا ليس موضوعنا ولكن فقط لتأكيد أن الأمر ليس عفويا ولكنه مخطط ومدروس وفيما يلي بعض ما كتب في موضوع السياسة الفرنسية والتنصير. إذ جاء في الإشادة بأحد المبشرين والمسؤولين الاستعماريين ما يلي: «إن العمل الوطني الذي قام به «لافيجيري، بدأ مع عمله التبشيري، بدأ بنشره على السوريين تلك العطايا التي تمنحها الكنيسة الكاثوليكية، إنه جعل فرنسة محبوبة (لدى السوريين). وأضاف إلى الحقوق القديمة التي كنا نملكها (نحن الفرنسيين) على تلك المنطقة حقوقا جديدة... ولكن في الجزائر استطاع أن يهب كل ما في استطاعته لإظهار حبه لفرنسة. وهذا لا يبدو في المناصب السامية التي احتلها فقط، بل في تركه وطنه (للسكنى في الجزائر) إذ ليس ثمة وسيلة أحسن من الحرمان من نعمة الوطن حتى يستطيع الإنسان أن يدرك ما لهذه الكلمة (فرنسة) في نفسها من الجمال والنبل والعظمة وعلى أرض الجزائر، مدينة الجزائر، كانت القلوب تخفق لرؤية العلم المثلث الألوان خفقانا شديدا كان يثيره ذلك العلم المتموج فوق أحد الأبراج والمشرف على أرض أجنبية. تلك هي فرنسة، التي لم يحب لافيجيري ان يراها عظيمة وجميلة فقط، بل كان يود ان يراها أيضا أشد قوة وأكثر سكانا... أراد لافيجيري (ان يحبب فرنسا إلي الناس باسم المسيح). هذه الجملة يمكن أن توجز جميع سياسة لافيجيري الذي كان رئيس أساقفة، ثم أصبح كاردينالا ثم صاحب الولاية على جميع أساقفة افريقية. وفي الواقع انه لم يشأ أن يجعل من الوطنيين من أهل افريقية رعايا له ولا مواطنين. لقد أراد أن يجعل منهم أولادا له. فبحبه للمسيح وبالحب الذي يكنه لفرنسة أراد ان يتبناهم» من كتاب (التبشير والاستعمار) تأليف د، مصطفي الخالدي ود. عمر فروخ ص: 126 وجاء في مقدمة مجلة العالم الإسلامي بقلم مسيو شاتلي ما يلي: قلنا: في سنة 1910، عندما كنا نخوض على صفحات هذه المجلة في موضوع السياسة الإسلامية: «ينبغي لفرنسا أن يكون عملها في الشرق مبنيا قبل كل شيء على قواعد التربية العقلية ليتسنى لها توسيع نطاق هذا العمل والتثبت من فائدته. ويجدر بنا لتحقيق ذلك بالفعل أن لا نقتصر على المشروعات الخاصة التي يقوم الرهبان المبشرون وغيرهم بها لأن لهذه المشروعات أغراضا اختصاصية ثم ليس للقائمين بها حول ولا قوة في هيئتنا الاجتماعية التي من دأبها الاتكال على الحكومة وعدم الإقبال على مساعدة المشروعات الخاصة التي يقوم بها الأفراد فتبقى مجهوداتهم ضئيلة بالنسبة إلى الغرض العام الذي نحن نتوخاه، وهو غرض لا يمكن الوصول إليه بالتعليم الذي يكون تحت الجامعات الفرنساوية، نظرا لما اختص به هذا التعليم من الوسائل العقلية والعلمية المبنية على قوة الإرادة. وأنا أرجو أن يخرج هذا التعليم إلى حيز الفعل ليبث في دين الإسلام التعاليم المستمدة من المدرسة الجامعة الفرنساوية». وهكذا نرى أن الأمر ليس مفارقا ولكنه أمر محدد ومطلوب القيام به بكل الوسائل. ولنا عودة للموضوع