الجولة الأفريقية الناجحة التي يقوم بها جلالة الملك، وتوجيهه، حفظه الله، لخطاب المسيرة الخضراء في ذكراها الحادية والأربعين من العاصمة السينغالية دكار، هما بكل المقايس، تجديد عميق الدلالة في الدبلوماسية الأفريقية يؤسّس لتطور في مفهوم الدبلوماسية غير مسبوق يعدُّ من وجهة نظر القانون الدولي، إضافةً للعلوم السياسية، ونقلة نوعية في العلاقات الدولية في هذه المرحلة الصعبة التي يمر بها العالم، حيث يتعرض الأمن والسلم الدوليان لتهديدات خطيرة، تنطوي على مؤشرات إلى احتمال اندلاع حرب عالمية إذا ما وقع في لحظة جنون، الصدام بين القوتين العظميين اللتين تتصارعان في منطقة الشرق الأوسط وعلى الحدود الشرقية للاتحاد الأوروبي. لقد كان الخطاب المهمّ الذي وجّهه جلالة الملك من دكار إلى الشعب المغربي، بمناسبة الذكرى الحادية والأربعين للمسيرة الخضراء، تجديداً وفتحاً في السياسة المغربية التي يقودها جلالة الملك بحكمة بالغة، للتأكيد على حقوق المغرب في صحرائه المسترجعة، ولقطع الطريق على المناورات التي يُراد بها إطالة أمد النزاع المفتعل في هذا الجزء من القارة الأفريقية، خدمة لمصالح استعمارية تشترك فيها دول شقيقة وأخرى صديقة، لا علاقة لها بالمصالح العليا للقارة السمراء التي هي موضع الإجماع من الدول الأفريقية كافة. وبذلك يكون الخطاب الملكي في هذه المناسبة، تدشيناً للمرحلة الجديدة في التعامل مع هذه الأزمة التي فرضت على المنطقة، وكان لها أسوأ الآثار على العمل الأفريقي المشترك، مما انعكس على الجهود الإنمائية التي تبذلها دول القارة لمكافحة الفقر والمرض والجهل. فهذا الخطاب الذي هو بالمعيار التاريخي خطاب غير مسبوق سيدخل التاريخ، موجَّه في الأساس إلى الشعوب الأفريقية التي تربطها بالمغرب علاقات متينة، بقدر ما هو رسالة سلام إلى دول الاتحاد الأفريقي تحمل المعاني العميقة التي تؤكد أن المملكة المغربية دولة محبة للسلام، وتلتزم بمبادئ القانون الدولي، وهي جزء لا يتجزأ من القارة الأفريقية، كما تنطوي رسالة السلام التي وجهها المغرب إلى أفريقيا، على دلالة أخرى أشدّ عمقاً مفادها أن الصحراء المغربية التي استرجعها المغرب بالمسيرة الخضراء، هي من صميم الوحدة الترابية المغربية، وركن من أركان سيادة الدولة المغربية على مجموع ترابها الوطني. وهو الأمر الذي يرقى إلى مستوى الإعلان الرسمي على لسان جلالة الملك من هذه العاصمة الأفريقية الشقيقة، بأن المملكة المغربية لن تفرط في صحرائها، بلغت ما بلغت المناورات التي تدبر والمؤامرات التي تحاك ضد وحدتها الترابية الراسخة. إن هذه الجولة الأفريقية الملكية تأتي في التوقيت المناسب، الأمر الذي يثبت أنها جاءت بعد دراسات معمقة، وتحليلات دقيقة، وقراءة متأنية في الخريطة السياسية الأفريقية، وأنها ثمرة تفكير استراتيجي معمق هو القاعدة التي تقوم عليها الدبلوماسية المغربية التي هي العنوان الأبرز للعهد الجديد والعلامة المميزة للمرحلة المقبلة. فهذه إذن، جولة دبلوماسية استراتيجية بالمعنى الدقيق، وخطاب دكار هو الآخر خطاب دبلوماسي استراتيجي ذو أبعاد أفريقية يمهد به المغرب للعودة إلى الجلوس على مقعده في الاتحاد الأفريقي، أكثر من أن يكون خطاباً سياسياً وطنياً. فالحفاظ على الوحدة الترابية المغربية هي العمود الفقري للجولة الأفريقية الملكية. فالهدف الرئيس من هذه الجولة هو التأكيد على الانتماء الأفريقي المغربي، بقدرما هو ترسيخ لحقوق المغرب في صحرائه المسترجعة التي لن يفرط فيها تحت أي ظرف من الظروف. فالتحرك المغربي أفريقيا، هو تحرك دبلوماسي استراتيجي مدروس بدقة، يستشرف آفاق المستقبل، ويشق الطريق نحو تعاون جنوب-جنوب يكرّس شراكة متعددة المجالات، تقوم على السلم والتنمية الشاملة المستدامة، تحقيقاً للمصالح الاستراتيجية العليا للدول التي يقيم معها المغرب علاقات تعاون واسعة الأفق عالية السقف. لقد غرقت القارة الأفريقية في المشاكل طيلة العقود الستة الأخيرة. فالاتحاد الأفريقي الذي نشأ في المغرب في مطلع الستينيات في صيغته الأولى (منظمة الوحدة الأفريقية)، انحرف عن غاياته السامية، حين خضع للأهواء السياسية الطائشة ووقع في المزالق التي نصبت له ليبتعد عن الأهداف التي اجتمع حولها القادة الأفارقة الرواد المؤسسون، وفي الطليعة منهم جلالة الملك محمد الخامس، يرحمه الله. وكان للأنظمة الاستبدادية التي جاءت بها الانقلابات العسكرية، دور شديد التأثير في تحريف الاتحاد الأفريقي عن وجهته، وفي إضرام الصراعات بين الدول على أساس التقسيم الذي كان يعمل به لفترة طويلة (الدول التقدمية) و(الدول الرجعية). حتى إذا ما جاء عصر الطاغية الدكتاتور معمر القذافي الذي حكم ليبيا بالحديد والنار أكثر من أربعة عقود، استولى على الاتحاد الأفريقي، وتحكم في سياساته حين فرض نفسه على الأفارقة حاكماً بأمره، بالأموال الطائلة التي كان يوزعها على رؤساء الدول التي انساقت لأهوائه وخضعت لإملاءاته، فانتشر الفساد السياسي في العمل الأفريقي المشترك، وانقلبت المعايير الدبلوماسية، وغابت المبادئ القانونية، وتراجعت القيم الأفريقية، فدخلت القارة منعطفاً خطيراً، خصوصاً لما قبلت في الاتحاد الأفريقي عضوية كيان هجين مزيف لا يملك أي مقوم من مقومات الدولة، فكان ذلك إجهاضاً للمشروع الأفريقي الذي حلمت به الشعوب، وبشر به الآباء المؤسسون. فكان من الطبيعي أن تتدهور العلاقات الأفريقية-الأفريقية، وأن تتفاقم الأزمات وتغرق القارة في دوامة من المشاكل التي بات بعضها مشاكل مزمنة تعرقل حركة النمو والاستقرار والسلام. إن التحرك المغربي في القارة الأفريقية يهدف إلى عودة الوعي الأفريقي، وتطهير العلاقات الأفريقية-الأفريقية من الشوائب، وإقامة جسور التعاون والشراكة على قواعد من الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، والسعي المشترك من أجل بناء السلام والتنمية الشاملة المستدامة. وبذلك يكون المغرب يمهد الطريق أمام دول القارة للدخول في مرحلة جديدة من العمل الأفريقي المشترك، ويساهم في فتح آفاق جديدة يستشرفها الاتحاد الأفريقي، بعيداً عن المزايدات والمناورات وضياع الوقت في حل النزاعات التي هي من إفرازات عهد (التيه الأفريقي).