حتى أقرب السياسيين إلى مربع السلطة الجزائرية شككوا أول أمس في صحة تبرير الامين العام لأقدم و أكبر الأحزاب الجزائرية استقالته المفاجئة من دفة قيادة الحزب الحاكم بظروف صحية . العارفون بخبايا المطبخ السياسي الداخلي بالجزائر و تقاطعات قوى النفوذ الظاهرة و المتسترة يجزمون أن قرار طرد عمار سعداني من مربع النفوذ أتخذ بالدائرة الضيقة لرئيس البلاد بوتفليقة بعد أن تيقن الاخير أن مهمة سعداني في خدمة الجالس على مقعد قصر المرادية قد استنفذت أغراضها و أن زعيم الحزب الذي يرأسه بوتفليقة شخصيا أضحى يشكل عبئا إعلاميا و سياسيا مكلفا جدا لموازين القوى التي كان الرئيس المريض قد أحكم السيطرة عليها بعد أن أقال بذكاء صانع الرؤساء و رئيس جهاز الاستخبارات محمد توفيق و نقل جزءا من مهامه الحساسة الى جنرال آخر مقرب منه . سعداني دخل منذ فترة في سلسلة هجومات وتحرشات إعلامية صريحة في حق مسؤولين مقربين من بوتفليقة بدءا من الجنرال الاستخباراتي المقال و انتهاء برئيس الوزراء السابق و الزعيم السابق بلخادم حزب الجبهة الذي رماه سعدان الى الهامش . برأي المراقبين فعمار سعداني وقع بعظمة لسانه على شهادة وفاته السياسية حين تجرأ قبل سنة على تسفيه الموقف الرسمي للنظام الجزائري من ملف النزاع المفتعل حول الصحراء و كسر من موقع زعيم الحزب الحاكم ما يسمى بالاجماع الرسمي الجزائري حول قضية الصحراء . سعداني قال حينها مباشرة على أثير قناة فضائية مقربة من الجنرالات النافذين أنه لو تحدث عن قضية الصحراء لخرج الشعب الجزائري إلى الشوارع في تلميح ضمني الى عدم رضاه عن طريقة تدبير النظام الجزائري لهذا الملف. مشددا على ضرورة مراجعة الحسابات بخصوص علاقة بلاده بالمملكة وكاشفا الحقيقة المرعبة التي لا يرغب حكام الجزائر أن تتسرب عبر جدران قصر المرادية و مفادها أن ما يسمى لدى الجيران بالقضية الصحراوية ليست في واقع الامر الا أسطورة من صنع المخابرات العسكرية لاخضاع المملكة لشروط مجحفة وارغامها على بذل التنازلات تلو الاخرى . الرد الرسمي الجزائري على تهور قائد الحزب الحاكم لم يتأخر في حينه فوزراء بالحكومة الجزائرية سارعو بدورهم لتسفيه حليفهم في الحكم وبوتفليقة رئيس البلاد سارع أياما بعد "نزوة" عمار الى استقبال زعيم الانفصاليين الراحل بديوان الرئاسة لكنه لم يستعجل معاقبة و محاسبة رئيس الحزب الذي أوصله الى مقعد الرئاسة . حكام الجارة يدركون أن ملف الصحراء ورقة ضغط لا ينفذ مفعولها في مواجهة و ابتزاز الرباط , إلا أن حقائق الوضع الميداني تتغير مع توالي الأيام والسنوات في حين يتقادم الى حد التكلس موقف الجيران المتحجر من النزاع الذي افتعلوه قبل أربعة عقود لازعاج المملكة بعد أن يئسوا من محاولات إيجاد و تدجين و تعهد معارضة متطوعة لقلب النظام المغربي من الداخل . نظام المرادية يفقد تدريجيا خيوط المبادرة في ملف الصحراء , فهو يتحمل عبئا سياسيا وماديا مكلفا بوضع جزء من التراب الجزائري تحت تصرف حركة إنفصالية لكنه يعترض على عملية إحصاء ساكنة المخيمات التي يقدمها كأساس بشري لجمهورية وهمية لا تتوفر على أدنى شروط السيادة . كما أن الحكومة الجزائر ية ترفض منح من تحتجزهم داخل غيتوهات صحراء لحمادة صفة لاجئين تضبط حقوقهم وواجباتهم تجاه المنتظم الدولي وتتعامل معهم بمنطق الاستعباد والتمييز العنصري والعرقي حين توفر لبعضهم امتيازات ووثائق هوية و سفر وتحرم الاغلبية من الحق الانساني في التحرك والتنقل بحرية و بارادة ذاتية . قصر المرادية غارق في دوامة تسوية موازين القوى الداخلية واكراهات الوضع الاجتماعي والاقتصادي الداخلي المشتعل و المنذر لذلك فهو دوما في بحث مستمر عن شماعة خارجية يعلق عليها اخفاقاته و مآسيه الداخلية قد تكون الجارة الغربية التي أضحت تستعيد تدريجيا عافيتها الدبلوماسية والاقتصادية مشكلة منافسا مقلقا لحسابات وأجندة الاشقاء , وقد تتحول فجأة الى عدو خارجي مرحلي أو دائم كما هو الحال مع باريس التي ما زالت في العرف الجزائري الرسمي لم تسدد بعد فاتورة فترة استعمارها الطويل للجزائر أو واشنطن التي تجرأت على التنبؤ بانهيار وشيك للاستقرار الاجتماعي بالجزائر و سقوط تراب هذا البلد ضحية التفتت و التقسيم . مهما تواترت التحليلات حول الأساطير المؤسسة للسلوك الرسمي الجزائري تجاه أصدقائه وأعدائه فإن أفول زعيم سياسي من وزن عمار سعداني المنتوج الخام لمخابر الجنرالات و الحكام الحقيقيين للبلد الجار تبقى في البداية و النهاية مرآة تعكس بصدق حقيقة ورطة نظام قصر المرادية في تدبير علاقاته مع محيطه بمنطق الاحترام و مدلول المصالح المشتركة داخل سياق اقليمي متقلب تعتبر الجارة الجزائر الدولة المتصدرة لقائمة ضحاياه و فرائسه مستقبلا .