كنت أشتم رائحة الحزن في ذاك المساء الحزين ، تلون ساعتها بالفرح النزق ، أعيش بين المنزلتين لست أجهش بالبكاء ولا أطرب لأنغام الفرح ، كنت سعيدة في تلك الأيام التي استطعت أن أحدد هويتي ،عندما كنت متيقنة بأني تلميذة مثقلة بالهموم ، تحمل أحلاما متوارية ، سيما أني كبرى أخواتي اليتيمات ، فالأم قد ودعتنا على مضض أيام الملاوة ، أما الأب المسكين فقد انحنى لهواه واستسلم للقدر وتزوج امرأة ثانية لا تعرف للحنان سبيل ، ولا للود معبر ، فقط تحسن الحقد والكره ، كم هي قاسية مع غير أبنائها ، لذا أجدني مضطرة حينها إلى أن أتمم دراستي سعيا إلى بلوغ الأماني التي أعيش من أجلها والأوهام التي تبقي على حبل الحياة مشدودا بيني وبين أخواتي، أما اليوم فقد تبددت الأماني كما الغيوم أمام الشمس الوضاءة ، منذ ذلك اليوم الذي اخترت فيه التعاسة بدل السعادة والحزن بدل الفرح والشجن بدل الهدوء والهدهدة بدل الهدأة لم أكن واعية تماما بما كنت أفعل ،كانت نصائح الأساتذة مجرد أفكار عابرة لا تختمر في ذهني ، لا تبقي على شيء. وقتئذ كان" بحبوح" قد تقدم لطلب يدي من أبي يا ليته ما فعل انبسطت زوجة أبي للأمر كثيرا لأنها ستتخلص من هم يسكن باطنها ،و يتفسح المجال حيالها ،أما أنا فالكدر والسرور صنوان متشابهان ،طبعا لأن فتاة في مثل سني تعيش داخل بيئة تحوطها لا يمكن أن ترفض طلب الزواج ، لذا بادرت دون تردد إلى قبول الزواج ، لكن الذي غاب وعثاؤه عني أن أستاذ الفلسفة خبر المجال الاجتماعي في بواطنه الخفية ولم يتوان للحظة في تقديم النصح والإرشاد لفتاة تعلب بالتراب والليل حالك، دامس، فلطالما هاتفني محاولا إقناعي بضرورة الحصول على شهادة الباكالوريا لأن الأيام دول كما يتردد على لسانه دائما، أما الزميلات في الصف فهن سعيدات بزواجي وفي الآن ذاته تعيسات من القرار الذي اتخذته بشأن الدراسة ، في حين أن أخواتي الثلاث ؛ليلى أصغرهن ودعد أكبرهن و دادة توأم لليلى ، كنت بينهم بمثابة الأم ،أحاول أن أسكب بعضا من الحنان في فؤادهن ،وأن أحافظ على جانب من البسمة على محياهن ، أما الآن فقد تحول كل شيء إلى لؤم غير منقطع، سيما أنهن يعلمن جيدا مدى قسوة وجفاء زوجة الأب وأنا بينهن، أما إن رحلت إلى بيت الزوج فيعلم الله كم ستربو نفسيتهن تأزما . فجأة ألفيت نفسي داخل بيت الزوج رفقة عائلته ؛ أم عجوز ، محدودبة الظهر ، قليلة النظر ،يتستر وجهها خلف نظارتين واسعتين سوداوين ، لا تحسن إلا" النْكير " و فتيات نزلت بينهن كالخادمة ، كم كنت أكره أن أظل لوقت طويل في المطبخ أما ساعتها فقد اعتدت الأمر على حنق لا لشيء سوى أني زوجة في ثوب خادمة ، أستيقظ باكرا وقت الهجير أدخل المطبخ ولا أخرج منه إلا بعيد وجبة العشاء ، كنت كثيرا ما أخلو بنفسي ،أناجيها ، أتساءل عن حقوق الزوجة التي علمنا إياها أستاذ التربية الإسلامية من قبيل الكرامة المساواة الاحترام والقائمة طويلة ،أتأمل ذاتي بين هذه الحقوق فأتلاشى بين دمع يسيل على خدي الناحل ،أرفس صدري حينا ،وطورا ألبب جيدي محاولة التخلص من النفس التي تتعذب داخلي ، كم تمنيت في ذاك المساء أن أكون حجرا صما لا إحساس فيه ؛فأم الزوج على كبرها صارت كشابة يافعة ، اندفعت نحوي قائلة بصوت خشن أجش :"منذ أن دخلت عتبة الدار داخل النحس معك " ،أما باقي أفراد العائلة فقد أصبحت بينهن دخَلا كنقطة حرف النون ، وهن ينظرن إلي نظرة احتقار وسؤم. بعدها بدقائق قليلة أخبرت أن زوجي أتم شهر العسل بحادثة سير أودت بحياة رجل ثمل مجهول الهوية ، لذا فأنا أتردد عليه كل يوم في السجن إلى أن يتم شهرا كاملا أعده بالدقائق والتواني عسى طائر الفينق ينبعث من رماده من جديد ،أو تصعد عشتار من اللحد قبل فصل الربيع لأنعم بالحياة ،و أتناسى هلوسات وضعت حيالها في سراديب الأسى.