هل سمعتم مرة عن قهوة بطعم الصراصير؟! طبعا لا.. بإمكانكم تصور ماذا يعني ذلك.. ببساطة إنها قهوة مغلية مع الصراصير.. ولكن ليس بإمكانكم تصور طعمها، خاصة إذا تناولتموها وأنتم على دراية بأنها كذلك.. هذا ما حصل مع "حنان" في ذلك اليوم الخريفي وما تلاه من أحداث بنفس طعم القهوة.. عندما تغلى الصراصير مع الماء وتستخرج عصارتها، تصبح المياه شبه لزجة سميكة، بطعم حلو ممزوج بحموضة ورائحة غريبة، بها قليل من الزنخة، ولا تستطيع أن تجزم بأنها كريهة، ولا تستدل على مصدرها الأصلي، طعم لم تتذوقه من قبل، لا تدري كيف تصفه.. كل هذه الأمور تؤدي إلى صعوبة انسياب القهوة في الفم بعد ارتشافها. ارتشفت "حنان" أول رشفة من القهوة، فالتصقت كالصمغ في سقف حلقها، ومع الرشفة الثانية، تأكدت بان هناك خطأ ما في هذه القهوة، فرفعت غطاء غلاية القهوة وتفحصتها ولم يتبين لها أي شيء غير عادي، أسرعت إلى المطبخ وفتحت السخان الكهربائي لتجد فيه مجموعة من الصراصير الكبيرة عائمة وقد تفتت أجزاءها إلى أشلاء.. أخذت "حنان" تتقيأ وتصدر أصوات عالية، وبدأت تبصق وتبصق حتى جف حلقها، وفركت وغسلت أسنانها بالماء، ثم خرجت مسرعة إلى اقرب حانوت واشترت معجون أسنان وأفرغته في فمها وهي على حالها، تبصق باستمرار، ولكن طعم القهوة الغريب بقي في فمها. فتقيأت مرات وازدادت الحموضة بين أسنانها. في صباح ذلك اليوم، استقلت "حنان" الحافلة من قرية "الشيخ مؤنس" المهجرة، التي أقيم على أنقاضها حي "رمات أفيف" في مدينة "تل أبيب" إلى مكان عملها في "نادي الشبان اليافاوي".. استغلت فترة السفر إلى العمل بقراءة جريدة "الاتحاد" الحيفاوية التي تصلها متأخرة عدة أيام لأنها تسكن في منطقة يهودية.. وقد طاب لها أن تقرأ الأخبار بعد حدوثها بأيام، فهي تخاف المفاجآت، حتى لو كانت سارة، وكانت تقول في نفسها باستمرار، بعد قراءتها لخبر سيئ: الحمد لله أن هذا لم يحدث اليوم! يقع النادي الذي تعمل فيه "حنان" وسط حي العجمي في يافا، ويتبع لبلدية تل ابيب، وتداوم به خمسة أيام في الأسبوع، حيث تقوم بتنظيم فعاليات ثقافية متنوعة هناك، ويستعمل كملجأ في أوقات الحرب، تنقصه نوافذ التهوئة وله باب حديدي كبير ومن الصعب على "حنان" إغلاقه بدون مساعدة، يضم غرفتين صغيرتين وقاعة واسعة، ومطبخًا صغيرًا، وجميع حوائج المكان من الأثاث البالي، تفيض عليها مياه المجاري مرة في الأسبوع على الأقل، فتغمرها، وبعد التنظيف، يبقى الجو خانقا من ترسبات الروائح التي تعبق في الأجواء لفترة طويلة. تعكر مزاج "حنان" بعد قهوتها الصراصيرية ولم تستطع محو طعم القهوة من فمها، فتشاءمت وتعوذت بالله من شر هذا اليوم، وما زاد الطين بله، أن أطفال الحارة الصغار، أخذوا بالإزعاج كعادتهم دون سبب.. يدخلون إلى الملجأ، يصرخون ويولون هاربين، فانتهرتهم "حنان" بغضب، وطلبت منهم عدم الاقتراب والإزعاج، وفيما هي على هذه الحال المتكدرة، قررت الخروج من الملجأ والجلوس في ساحته في ظل شجرة الكيناء الكبيرة المتعالية فوق سطح الملجأ، هربا من رائحة وجو الملجأ الخانق، ولتدخين سيجارة في الهواء الطلق، علها تطرد الطعم المتبقي في فمها. أشعلت السيجارة الأولى والثانية والثالثة، وما زالت دقات قلبها تتسارع وإحساس غير سار يلاحقها باستمرار.. فمن بعيد وعلى الشارع الرئيسي، لاح لها شابان ضخمان، يبدوان كالماردين، عضلاتهما مفتولة بشكل منفر لضخامتها. وصدرهما بارز إلى الأمام وظهرهما ممتلئ إلى الوراء، فكما يبدو بأن الشابين يتدربان في نادي لكمال الأجسام، وما أثار دهشتها أن الشابين يتجهان نحوها مباشرة وبسرعة داهمة، وعيونهما تقدحان شررًا، فتوسمت شرًا وقالت: سترك يا رب من هذا اليوم اللعين.. ها هي عدة أمتار وسيصلان إليها ومن ورائهما يجري طفل صغير لم يتعد الأربع سنوات من عمره، تعرفت عليه فورا، فإنه أحد الأطفال الذين انتهرتهم قبل قليل.. تساءلت، ما الخطب؟ من المؤكد أنهما جاءا لتصفية الحساب مع أحدهم.. هل يا ترى هو أحد شبان النادي أو الجيران؟ ورسمت علامة الصليب على صدرها بيد نعسة، وكانت المفاجأة أنها هي المطلوبة، توجها إليها مباشرة وقال أحدهما صارخا بصوت خشن: لماذا ضربت أخي الصغير؟ فصاحت حنان: ماذا؟! وصرخ الآخر بصوت أعلى من سابقه: كيف تتجرئين وتمدين يدك على هذا الطفل؟ قالت بثقة أكيدة: كما يبدو هناك سوء تفاهم.. أنا لم أضرب أحدا.. والضرب ليس أسلوبي.. وأضافت وهي خائفة: هل يمكن أن نتحدث بهدوء؟ اقترب إليها أكثرهما دمامة وكاد انفه يلامس انفها، كازّاً على أسنانه من الغيظ، رافعاً يده فوق رأسها، وبشكل لا إرادي، جفلت "حنان" وأدارت رأسها جانبا وغطت وجهها بيديها وقالت له: أنا مدركة لغضبك يا أخي.. صلي على النبي.. عد للعشرة أيها الجار.. هناك سوء تفاهم.. دعنا نستوضح ما حدث.. وإذا ضربت أخاك بالفعل، يحق لك أن تفعل ما تريد؟ خلال ثوان معدودة، تجمع الجيران حولهم ليستوضحوا ما الحدث، وكان من الصعب تهدئتهما، وكأنهما في مهمة عاجلة عليهما انجازها والعودة إلى بيتهما. فقالت لهما: من قال إنني ضربت هذا الصغير؟ فتوجه أحدهما للصغير وسأله: "شادي.. مين ضربك"؟ أما الصغير فكان طفلا وسيما وسمينا، أبيض اللون وشعره أملس بلون خروبي، يتدلى حتى كتفيه، وللوهلة الأولى تشعر بأنك ستضم هذا الصغير وتقبله، لخفة دمه، ولا يمكن أن تتخيله يكذب، لكنه قال وهو ينظر إلى أخيه، مسبلا رموشه ومشيرا إليها: هي ضربتني.. فقالت له حنان: هل أنا ضربتك حبيبي؟!! - نعم.. - متى؟!!! -عندما دخلت إلى النادي قبل قليل.. وأزعجتك.. - كيف ضربتك؟! - لقد صفعتني كفين على وجهي وشددتني من شعري وسحبتني إلى الخارج- وقام بصفع خده وبشد شعره، ليوضح كيف حصل.. - ربما ضربك شخص آخر وليس أنا يا "شادي"؟؟ - أنت ضربتني.. - أنا لم ألمسك ولم أضربك!! - أنت ضربتني، وبالعلامة، اسمك "حنان"، وأنت تعملين في هذا النادي. أمسك أحد الضخمين بذراعها، فشعرت بأن أنامله ستطحن عظامها وصاح: سوف أضربك، مثلما ضربت أخي. تأكدت "حنان" بأنها في ورطة كبيرة، فكيف يمكن لها أن تثبت لهذين الماردين، بأن شقيقهما الصغير الذي تبدو عليه علامات البراءة، هو كاذب محترف ويختلق القصة من أساسها، ماذا سيحدث لها لو وجه إليها اتهامات أخطر، هل يمكن لهؤلاء الملائكة الصغار أن يكونوا شياطين إلى هذا الحد.. نظرت "حنان" يمينا ويسارا، باحثة عن منقذ لها.. متأملة في عيون المتجمهرين لعلها تجد شاهدا واحدا على ما حدث.. وجاءها الفرج، حين رأت صديقتها "منى" التي تسكن في نفس الحي قادمة إليها، فنادتها بصوت متحشرج كأنها وجدت ضالتها.. اقتربت "منى" وفوراً، أدركت ما حدث وقالت لهما بصوت هادئ: اخجلا من نفسكما، هذه صديقتي.. لماذا أنتما متسرعان، ولماذا هذا التصرف الهجومي؟! ولم تفهم حنان لماذا انصاع الشابان لصديقتها، ولكنها علمت فيما بعد، أن الشابين والصبي الصغير هم أخوتها، وشعرت في تلك اللحظة بالارتياح لما حدث وبالامتنان لصديقتها الرائعة ولكنها لم تفوت فرصة الثأر من هذين المتعجرفين لإهانتها في الحي وعلى مرأى من أهله، فتمتمت بشتيمة تليق بهما. وراودتها فكرة خبيثة وجهنمية.. تذكرت قهوتها الصراصيرية، وأصرت على مصالحة الشابين وأن يشربا القهوة التي لا تزال ساخنة عندها في النادي لتصفية القلوب، وسكبت لهما فنجانين. نظر إليها أحدهما وزأر بكل قوته: اشربي القهوة معنا..لن نشربها من دونك فصديقة "منى" هي صديقتنا؟