ولم تجد حاشية الملك بدا من التفكير جديا في تنفيذ وصيته بممارسة كل طقوس توديع الميت من الغسل إلى الدفن، أوحى حاجب القصر لخليفة الفقيد، بأن هيبة المملكة في الميزان، وهو يسر لنفسه عبارة على المحك. أعلن في آخر خطبة ألقاها بنفسه قبيل وفاته، عن رغبته في الحشر بين قبور العامة في ضاحية المدينة، لم تكن لهجته مما تعودنا عليه، بل لعل الكلمة هذه المرة كانت من تأليفه على غير عادته فيما يلقيه أمام الشعب بمناسبة وبغير مناسبة، في لغة متهلهلة بنبرة حزينة تكتنف صوته المتقطع، وبينما كان الترقب بلهفة حادة لسماع ما سيعلنه من قرارات حاسمة بعد الذي صار في مملكته البئيسة، فاجأ الجميع كعادته بالقفز على الأحداث، ليحدثهم عن دنو أجله، وما قرر اتخاذه من مبادرات يصحح بها أخطاءه حتى لا يعترف بما كان يحتاج إليه من تكفير عنها قبل فوات الأوان، لم يذكر شعبه الوفي بالمحجة البيضاء التي تركهم عليها لا يزيغ عنها إلا هالك، ولم يكرر على مسامعهم وصف البلد بالجنة التي يتربص بها الحساد، باختصار شديد، يا بني، كان الملك غريب الأطوار، يتلعثم في جمع حروفه المبعثرة، باهت الوجه ذابل الجفون. منذ رحيل ملك بلاد الشام، والمتسامرون يحسبون أيام صاحبنا المتبقية، راجت شائعات تهامس بها رواد النميمة في شؤون الملك، لكن أحدا لم يتصور جرأة منه يمكن أن تخلي سبيله من مثالب الحكم بالحديد والرصاص، قال أحدنا: لعله أراد أن يموت رجلا. فتح الباب الكبير لخروج النعش محمولا في سيارة نقل الموتى بالمجان، فوجئت حاشية الملك بفراغ ساحة المشور السعيد من العامة، رغم الإعلان عن الساعة بتوقيت صلاة العصر، حاول الحاجب الأعظم تدارك الموقف خجلا من تهكم الوفود الرسمية، فبدأ بتوزيع الأدوار أملا في تشييع يليق بالمقام، تقدمت الشخصيات الأجنبية السيارة وهي تأخذ طريقها نحو المقبرة كما أوصى الملك الراحل، بينما احتشد خلفها الوزراء والأمراء متلصصين عيون الكاميرات، وفي المقدمة والمؤخرة انحشر فقهاء النعي لترديد لازمة التشييع المؤدى عنها بإيقاعها المألوف، حضرت المشهد يا بني، ولسان حالي يقول: لعله مع ذلك مات رجلا.