أعبر الجسر عند الصّباح هكذا كلّ صباح قبل شروق الشّمس على الجسر أشعر أنّ العالم أرحم وأخفّ أمشي وأدندن أغنية، أشدو "ليل الرّين"1 وأقيم ممالكي في الحلم.. تأتي سيّدة الأصوات البعيدة في شكل يد من خلف تجذبني أشعر أنّها تأخذني في مقامات النّأي وترمي بخطوي في الآفاق الرّحبة.. يعلو الجسر.. فأعلو يشتعل الصّبح - ورديّا كان – أتخيّلني على جسر "ميرابو" 2 والنهر يتدفّق تحتي وفي قلبي تتدافع قصص الحبّ. فجأة ينتابني ما يشبه الكابوس ثمّة شبح في الذّاكرة السّوداء في الرّأس وفي القلب شبح يصعد حين يصعد الجسر، وأصعد يهبط حين أهبط أقف.. يقف أعدو.. فيعدو قلت حسنا أسلّم نفسي.. قال الشبح الكابوس: - وكان "بول سيلان" – 3 أنا ظلّك بالأمس.. فهل تنكر ظلّك؟ أنظر تحت.. واتبعني.. من أعلى الجسر قفز الظلّ، الشّبح، الكابوس في نهر "السّين" 4 قلت لابأس من المحاكاة أو التناصّ في الشّعر وفي الفعل فتبعته ورميت بي في قاع النّهر. -2- جيفة بودلير وأنا أقرأ "جيفة" بودلير 1 تصّاعدُ أبخرة في حلقي وسمومٌ ثملتُ بها وشرقتُ، حتّى الحلق صار زقاقا يضيقُ. وتصّاعدُ إلى رأسي أفكار: جاءني العدمُ الورديّ فقال: كنتُ الألمَ الشهيَّ وجاءني الألمُ وقال: كنتُ الجمال الفتيَّ. وأنا بين الألم والعدم في حيرة بينهما والجمال خطرتْ في البال مقولة "بروتون": "الجمال مربكٌ أو لا يكون" (جاء ذلك في ختام روايته "نادجا") 2 هكذا .. فالجسد ُ البهيّ الشهيُّ الجسدُ المطرّز بالغزوات وبالرّغبات الجسدُ المدهش السّاحرُ يتألّم لحظة الانتشاء.. يقفز هرًّا في الظلمات ويصيرُ إلى عدم عديمٍ لحظة الانطفاء. ...وأنا أديرُ الأفكار وأقلّبها في الرّأس متألّما أو متأمّلا صروح الجمال الملقاة كالمعاني على قارعة الطرقات.. رسخ في ذهني سطر شعريّ لبودلير: (.. ورغم ذلك ستكونين كتلك الجيفة بتعفّنها المرعب..) 3 يحدثُ هذا كلّما شاهدتُ جمالا غزيرا في جسدٍ فتّان. -3- خيمة في الميناءِ في ذات الميناءِ، أرقبُ سفنا تمضي وأخرى، على مهلٍ، تجيءُ... كم زمنٍ مضى وأنا في الميناءِ قريبٌ منّي: على بعدِ خيالٍ شاسعٍ على قربِ قرونٍ.. وحدي أرقبُ سفنَ الأيّامِ أيّامٍ تنوءُ بأغصانها ثمّ تمضي بلا عودة ْ.. كم نباتٍ أبيض تسلّقني في الحلمِ وكم خضتُ في الأوهام وخوّضتُ والميناءُ حيث وقفتُ سنينا حيث مشيتُ... - وكأنّ الأرضَ حدائقُ سكرى وارفة ُ الظلِّ والسّماءَ خفيضة ٌ في متناولِ الأيدي – ذاك الميناءُ، حيث انطفأ القلبُ، صار إلى خيمة ْ! -4- زهرة الألم فجرا أنهضُ من عدمي أتحسّسُ أشيائي واقفا كعصا موسى أضربُ في الغيب ثمّةَ طرْقٌ خفيفٌ على الشبّاكِ ثمّةَ طرْقٌ.. أطلَّ عليَّ "بودلير" بزهرةِ شرٍّ وقال : هذه الزّهرةُ لك.ْ أمسكتُ الزّهرةَ فإذا الزّهرةُ دمْ وأمسكتُ فإذا الزّهرةُ جمرٌ بدأتُ ألفُّ الحلمَ ألفُّ اللّغزَ ألفّ الفجر وأودعُ زهرتي في القلب لكنّ الزّهرة َ تنتفضُ، تتورّقُ، تتطايرُ فراشاتٍ بيضاءَ وحمراءَ وسوداءَ تسبحُ في الأفق.. وأنا واجمٌ أشرحُ اللّغزَ أشعلُ الوهم َ وأغمسُ زهرتي في الجمرِ!