حالما تلج ملكوت الشاعر المبدع محمد النبهان , حتى يلفحك نسيم عليل , مشبع بالماء، وكأن رذاذا رطبا ولا نهائيا ينهال عليك برفق وانت تجوس – مغمض العينين – كهوفا وأفياء وأمواه ،تستظل فيها ، أو ترتوي منها حد الغرق . حيث يستغرق الماء حيزا كبيرا في مجموعته ( إمرأة من أقصى المدينة ) التي صدرت هذا العام لتتوج ماراثونا شعريا ، بدأه منذ بواكير حياته . ومنذ الدهشة الأولى التي رافقته وهو يتأمل عالما غريبا يحيط به . يتلمس مفرداته ، ويعبث – كطفل صغير – في تفاصيله ، متأملا ,حالما ، فرحا . إنه الأنغمار في هذا الفيض الهائل من حيوات تؤطر فضاءاته ، بحدتها وخشونتها احيانا وبرقتها احيانا اخرى . بعضها ينغرس في الأعماق وبعضها يدعو إلى التلاشي .. مفاصل حياتية ومنعطفات . بعضها احدث شروخا في المجتمع وشروخا في الروح ايضا . انها الحرب التي هوت كنيزك متوحش ، اثارت رعبا شاملا وهوّة في التضاريس الأخلاقية والأجتماعية وحتى العاطفية للمنطقة برمتها ..التمايز والفصل على اساس ( عنصري ) طفح الى السطح بعد ان كان مطمورا . بدأت ازمة الهوية ومعنى المواطنة لجيل كامل ينتمي الى مسقط رأسه وملعب اترابه , ولكن الشروط القانونية تجرده من حقوقه ومن انتماءاته كمواطن وتقذف بها الى الهامش .واذا كانت مثل هذه الظواهر تمر على عموم الناس بشكل عابر , فإنها تترك آثارها المدمرة على وعي الشاعر –ضمير المجتمع- , كما تترك ميسمها المتوحش على عوالمه , فيصبح اكثر حزنا وألما , وكأن موجات من سونامي هائلة تقذف به بعيدا عن وطنه الذي أحبه ، وتلقي به على جزر من القلق والخيبة . محمد النبهان - كشاعر – كان رافضا للحرب والغزو ، مدافعا عن وطنه بحماسة الكلمة وصدق الموقف . وما ن هدأ غبار المعارك حتى القي به على قارعة النسيان . فاصبح مسكونا بهاجس الهوية في اعماله الشعرية السابقة . وهو المولود في الكويت في بداية سبعينات القرن الماضي . تهجى الشعر منذ صباه واصبح مفتونا به . أمسك بأوتار القوافي وظل يعزف الحانا شجية , عميقة في رؤاها , عميقة في مضامينها . انسابت في مجاميعه الشعرية التي صدرت متتابعة , وبدون توقف ومنها ( غربة اخرى ) و (دمي حجر على جمر بابك ) وما زال يتوهج على جمر ابداعه وما ديوانه ( إمرأة من أقصى المدينة ) والصادر عن دار مسعى هذا العام 2011 الآ حلقة من رحلة شعرية شاقة ما زال مبحرا فيها ,وقد ارخى اشرعة السفر مرة في رومانيا حيث مهرجان الشعر العالمي (نيكيتا ستانيسكو )فحصل على الجائزة الأولى , وهكذا فقد اصبح مبعث فخر ليس للشعر العربي فحسب , وانما للأنسان العربي . ولااعتقد أن تلك اللجنة التي انبهرت بشعره ومنحته اعلى اوسمتها تعلم أنه يمثل بلدا لم يتسنى ان يحصل على جنسية فيه !! تحتوي هذه المجموعة الشعرية على عشر قصائد , لكن القصيدة التي هيمنت على الديوان هي ( امرأة من اقصى المدينة ) وقد اصبحت قلادة الديوان , وعنوانه . يرسم لحظات زمن واغتراب في مدينة , معلنا عنها سوى بمقاسات البعد , فتبدو ازلية , قابلة للبقاء , وقابلة لخلق حلم او إلغائه . هذه المدينة اصبحت واجهة للقاء رجل بإمرأة "رجل من اقصى سفر , وإمرأة من ماء رجل من سفر , وإمرأة من أقصى الماء " ثمة امتزاج رغم تباعد الزوايا , التي تفرقهما , اوقد تجمعهما معا . الهيام بشمس تسقط على الشرفات , التوحش من البحر , خلسة اللقاء في زمن يستدرجهما الى شوارعه المأهولة بالأحلام . هل كان لقاءا عابرا كجزء من السفر ؟ ام انه لقاء انتظره الشاعر سنينا ليجد ذاته لأول مرة ؟ لم نستطع ان نسبر اغوار القصيدة التي كانت تسيل بشفافية اقرب الى الواقعية وابعد من الرومانسية . " يسرقنا الوقت الى شارعه المأهول بأحلام الناس , واسرار المدن الخلفية " يبدأ بتلمس هذه المدينة , وكأنه يود ان يتعايش معها , فيرسم بعضا من ملامحها . المقاهي الساحلية , الحانات , الفيض البشري , الموسيقى , مدينة هلامية تتسع بأتساع الحلم , تترفق بالعابرين . تلك مدينة "بين ازرقين " لم يبح باسمها , لكنه رسم خارطة روحها , فهي أليفة , هائلة في اتساعها , تمنح نفسها لمن تحب بصدق . فهي صنو المرأة وقرينتها , حتى نتوهم احيانا ان المدينة هذه ما هي الا مدينة احلام الشاعر حتى وان كانت قصائده تصف مدنا قد عاشها على صعيد التجربة الشخصية , ومن هنا تأتي الحساسية الشعرية إزاء المكان . وللمدن سحرها الخاص , جاذبيتها , قدرتها على ان تكون حبيبة اخرى . تتمنع احيانا وتستسلم احيانا اخرى . ان الأمتزاج المدهش للمدن الغريبة يعكس بشكل او آخر وحشية المدن الأم وقسوتها . لذا تصبح مدن الأحلام بديلا عاطفيا قد يتّحد مع المراة , في تناغم يصعب فيه التمييز " اسميك هذي المدينة " مُثلا . ولنا في قصائد سعدي يوسف مثال لكيفية الأستجابة تجاه المدينة وسبر اعماقها . واذا كان الشاعرقد رسم للمدن لونها شعوريا , فإنه إنهمك في التعامل مع عناصر مختلفة وتكوينات متتالية . ومن ابرز هذه العناصرهو الماء الذي كان يفيض بالقصائد , ويثقلها بالمعاني , فالمرأة من ماء , والأشياء يغمرها الماء , والبحر الهائل هو مُكوُن من الماء .. لقد كان الماء يتسرب من مسام القصائد "في الغرفة صورة البحر تملؤنا بالرطوبة .." ولكنه يعلن خشيته من البحر " لم اركب لبحر " وهذا الخشية تدفعه الى أن يجعل من هذا الكيان المائي عدوا غير مستحب . "اعرف أني حين اكون قريبا من البحر يسكنني هاجس الأنتحار .." وهو موقف يدعو للأستغراب حيث ان صرخته الأولى دوت على ساحل بحري ( الخليج ) في لحظة ولادته , وحبله السري تمرغ برمل ذالك البحر . لكن موقفه يختلف من جداول الماء , حيث ينم عن حب يصل حد العطش , وتبدو المشاركة الوجدانية بينه وبيين الأنهر الصغيرة والجداول "هذا الجدول حين قرأت عليه الشعر بكى " ثمة عناصر اخرى شاركت في البناء المعماري لروح قصائده , وهي اللغة , ولااعني اللغة بمعناها المعروف , والتي تعني البناء اللفظي المستوفي لشروط القواعد . اللغة عند محمد النبهلن تتجاوز ذالك. فهي عمق من المشاعر " لاتحملنا لغة " فاللغة المحكية غير قادرة على استيعاب اللحظة الأنسانية او العاطفية . كما تستحيل اللغة الى هوية " نعرف أنّا لغتانا " فهو يتجاوز المحكي , او في كونها وسيلة للأتصال والتفاهم . اللغة لديه تتوهج وكأنها بوصلة لألتقاط الوهج الأنساني من خلال الذوبان في الآخر والذي يتم عبر المشترك من الأحاسيس والمشاعر , فهي تتوغل مفصحة عن معان اخرى "احكي عن بحر , تحكي عن لغة البحر وعن قلق البحّار " وكما تعرّض للغة ومنحها ثقلا آخر , فقد تعرض للموسيقى , وهو يدرك بحكم ثقافته أثر الموسيقى في بناء الأنسانية , وتشذيب الروح وجعلها تتسامى , فالموسيقى نقيض للشر والكراهية والحرب , فهي تحتضن القيم العالية. "تصعد فينا الموسيقى جرّحها فرح عابر , او بللها خنجر نسيان .." الموسيقى لدى الشاعر , هي الروح المستفيضة التي تتوحد مع النفس , والتي تشكل فضاءا للتسامي " نصعد فوق الموسيقى ننسى أنّا نصعد فينا " واذا كانت الموسيقى جسرا ينفذ من الداخل الروحي الى ماهو خارجي , فإنها تعانق الحلم . اعني الحلم بعالم جميل بدون حواجز . حلم يحقق الجمال من خلال ترميم الأشياء , واستبدالها وتسميتها من جديد "اسميك هذي المدينة , هذي الشوارع, ثم أغلق بين ذراعيك بيتا صغيرا , وبابا , وحلما صغير " للحركة-اي الفعل الآلي للجسد – حضور في قصائد الشاعر , فقد يختزن الجسد قوة تعبيرية تعادل كل ادوات التعبير الأخرى , وقد جعل من الحركة لغة معبرة , تُفصح عن بعض المعاني " تأخذني من قلقي لمساء مزدحم بالرقص وأجساد تتمايل شبقا فوق تضاريس اللذة .." إن رشاقة السحب من اليد , ثم الأستجابة لها , تجعل من النص اكثر حيوية , وكأنه يعكس عبر العدسة الشعرية مشاهد من الحياة . لذا فقد كرر لازمة الأخذ ( تأخذني من كفي / تأخذني من جوعي / تأخذني من قلقي / تأخذني من تعبي ..ألخ ) انه تكرار مشوق يعبر عن حالات من الحبور والأنطلاق الطفولي البريء . وكما تطفو علامات الفرح , تترسب علامات الحزن حتى وهويعيش فرحا طارئا او مستعارا . فالغربة تسافر معه عبر المسافات . تطارده في المدن , تطرق باب غرفته . إنها تلك الغربة الروحية التي تجعل من الأنسان مجرد جسد . " كل غريب جسد عابر " ويبدو انها ليست بالمشاعر التي اوجدها جو السفر الى مدن اخرى . بل انها معاناة قديمة , تجذرت في شعره حد الأشباع . واذا كان كل واحد يحمل في داخله موته الخاص كما يرى الشاعر ريلكة , فإن كل شاعر يحمل في داخله غربته الخاصة , التي تترآى له من خلال المشاعر المتشظية " اعرفها من جُرح غيابي اعرف أني رجل طاريء " قصيدة إطار تشذُّ عن فحوى المجموعة الشعرية . لكنها لاتشذّ عن شدو الشاعر وهو يداري وحدته , بمحاولة تأطير الصورة . تلك الصورة التي تتمرد على الأطار ولاتقبله . ورغم اهتراء الحائط فانه يحلم بالمسمار . هل كان الحائط المهتريء , يمثل جملة هائلة من عوامل الأحباط والتي تقادمت ؟ إن ثراء النص يتسع لثل هذا التصور . وما علينا سوى تهديم الحائط وتعليق الصورة / الأمل عارية بدون برواز " الصورة تخرج من ضلع البرواز الصورة عارية فوق الحائط " اما قصيدته -يحب التي هي وهم – فقد تكون من اكثر القصائد غنائية وحميمية وشجنا واقلها رمزية .يهديها الى صديق , وتسيل القصيدة على ابواب الحنين , وتترصد المنفى , وتجعله جوعا وبردا وافعى . المنفى يتكثف حينما لاتنأى عن الحضن الأول فحسب وانما تنأى عن الصحاب , هؤلاء الذين تقاسموا همّ الرغيف , وسحقتهم المسافات ايضا . " كم مضى يا صديق الرغيف وحزن الأغاني؟ اما زلت تهوى سماع المواويل : (يا صاح انا خوك لو جار الدهر صاحبك / سكران بمودتك .. ) " ولاشك انها هذا التضمين الرشيق لبيت الشاعر الكبير الحاج زاير , يصعد بالشجن عاليا , فتتشح القصيدة بغلالة من الحزن حتى يتحول الزمن الى وحش تعوي دقائقه . وقد استخدم –الوقت – للتعبير عن الزمن وهو تعبير جميل مستنبط من اللغة المحكية , ومن الشعر الشعبي الذي يستخدم كلمة – الوَكت – كناية عن الشدة . ولكنه يجعل المنفى يصل الى مداه حينما يترسب في وجدان الأنسان "ارتب منفاك فيّ, ومنفاي فيك (كلانا يقطّر منفى ) وحين تغيب جنوبا , اسميك جُرح الشمال ..". وكما بدأت المجموعة بالسفر , فإنها تنتهي بالرحيل .بحيث ان ارتباك السفر يجعل الخطوات تسير نحو افاق مجهولة , خطوات غير مبالية : "اربع خطوات في درج السهو ونعطي للعالم ظهرينا " .