يحتوى كتاب "أيام الحرية في ميدان التحرير" للكاتب الصحفي محمد الشماع على 224 صفحة من القطع المتوسط، والكتاب صادر عن مؤسسة شمس للنشر والإعلام بالقاهرة، ، ويضم أربعة فصول و ثلاثة ملاحق، ولا أدرى لماذا ذكرنى الكتاب بكتاب " الصحفى الأمريكى الشهير " جون ريد" عن الثورة الروسية وكان عنوانه " عشرة أيام هزت العالم" مع الاعتراف طبعا بالفارق الكبير بين مشروع " جون ريد" التوثيقى ، ورحلة محمد الشماع الاستكشافية كصحفى شاب لميدان التحرير ولعل من أبرز خصائص الكاتب من خلال قراءتى للكتاب هى الميزات التالية:- 1- أن محمد الشماع يكتب عما يعرفه ويشاهده بخبرته هو وليس من خلال مقولات سياسية جاهزة تحاول اصطياد الواقع ولجمه داخل قوالب المصطلحات السياسية التى تراكمت وأصبحت لا تدل على ما وضعت للدلالة عليه . 2- أنه يضع نفسه مكان المواطن العادى حين يصف الأشياء ببساطة وعمق شديدين وهذا طبعا يقنعنا ببراءة شهادته ويخلصنا من افتراض أن الكاتب يحاول أن يتبنى وجهة نظر سياسية معينة ومن ثم نجح الشماع فى أن يقنعنا بأنه فقط يرينا ما رأى دون الرغبة فى جعلنا نتبنى وجهة نظر معينه، 3- أن الكاتب –وهذا له صلة بالنقطة السابقة- لم يحاول أن يركز على كم المعلومات التى ينقلها لنا والتى كانت ستأخذ أسلوبا آخر للبحث وللاستقصاء العلمى والمنهجى ولكنه بالأحرى كان ينقل لنا إحساسه ومشاعره تجاه المشاهد التى يراها فساهم ذلك أيضا فى تخطى تحسبنا واحتراسنا وجعلنا نسير معه بسلاسة لأننا ببساطة صدقناه بعد أن تأكدنا أنه لايتبنى أيدولوجية معينة أو تفسيرا معينا لما كان يدور فى الميدان 4- هذا الاعتراف الإنسانى الرائع بشعوره بالرهبة والخوف والبعد عن ادعاء البطولة، وهو فى تقديرى الأمر الذى خلص كتابه من نبرة الهتاف والخطابة المرتبطة بجيلنا الذى يطلقون عليه " جيل الثمانينيات" 5- و أخيرا قدرة الكاتب على رصد الإعلام البديل وأهميته فى صناعة الثورة ولا سيما بعد أن نجح الإعلام الرسمى فى بسط سيطرته على القنوات الخاصة وأصبحت رسالة " فهمناكم.. وعودوا إلى دياركم هى طعام الصباح والمساء. ****** نأتى إذن إلى الفصل الأول والذى جاء بعنوان " ثمانية عشر يوما أسقطت نظام مبارك" وهنا لا أحب أن أدخل فى مجادلة حول مسألة ما تم إسقاطه هل هو مبارك فقط أم مبارك ونظامه وعلى أية حال يعود محمد الشماع فى موضع آخر ليقرر أن رأس النظام فقط هو الذى سقط وهذا فى يقينى هو التوصيف الدقيق حتى وإن تم تغيير كل الوجوه من وزراء ومحافظين ورؤساء جامعات ورؤساء مدن وحتى العمد والمشايخ لأن المسألة تخص مجمل سياسات مرتبطة بالرأسمال العولمى وبالولايات المتحدة ومشاريعها وهذا أمر يحتاج لكتب أخرى ومن ثم ليست هذه المسألة انتقاصا مما كتب الشماع ، بل وربما لا يصح مناقشتها فى سياق عرض كتابه ، إذ علينا أن نناقش أفكلره هو وليس أفكارنا نحن، و يقسم محمد الفصل الأول إلى يوميات واضعا التاريخ كعنوان متبعا أسلوب Diary( كتابة اليوميات) فى رصده لأيام الثورة ، يقول الشماع إنه نزل للشارع متجها للميدان يوم 25 يناير بسبب إحساس القلق الذى كان يساوره وهذا فى ظنى هو الفرق بين جيلنا وجيل الشماع وهو يذكرنى بموقف ابنى حين قلت له لن ننزل بسبب عدم وضوح الرؤية فأصر على النزول وقال إن عدم وضوح الرؤية هو ما يجعل نزولنا أمرا مهما لأننا لا يجب أن نترك الناس يضربون وحدهم ، فى اليومية التالية بتاريخ 26 يناير 2011 سيدهشنا الشماع ببصيرة فنان نافذة حين يلاحظ أن رجال الشرطة والمخبرين المنوط بهم مطاردة المتظاهرين والقبض عليهم قد ترهلت أجسادهم وأصبحت أكثر بدانة من ذى قبل ومن ثم لم يعودوا قادرين على المطاردة والسيطرة على الشباب الثائر الرشيق، محمد الشماع يذكر ذلك ببساطة وبراءة بالغتين دون أن يقول أن هؤلاء المخبرين ثقيلى الأبدان يرمزون إلى نظام قد ترهل وخارت قواه بسب السمنة والتخمة وما ابتلعه فى بطنه من أموال الشعب المصرى ومن ثم أصبح يمثل ماضيا لن يعود، أما الشباب المطارد فهو يرمز إلى المستقبل، كل ما سبق لم يكتبه محمد ولكنه إكتنزه فى جملة واحدة فى الصفحة رقم 18 " الغريب أن أجسامهم أصبحت مليئة عن ذى قبل "- هذا إضافة إلى الحوار البديع مع رجل الأمن والذى يشى أيضا بقدرة جيل محمد الشماع على استخدام العقل فى المواقف التى تتسع فيها الهوة بين قوتين غير متساويتين ، وفى يوم الخميس 27 يناير يرصد الشماع حالة الترقب والحذر والهدوء الذى يسبق العاصفة، ونجح طبعا ككاتب فى نقل تلك الحالة بطريقة بارعة كما يفعل السينارست الماهر ومن ثم جعلنا متشوقين لتكملة القصة بحثا عن تفاصيل لا نعرفها فأكملناها بغض النظر عن حصولنا عن تفاصيل جديدة من عدمه، وفى يوم الجمعة 28 يناير سنجد أن الشماع أدرك بذكاء شديد السبب الكامن وراء نجاح الثورة وهو ما يمكن اعتباره متغيرا جديدا فى أسلوب التظاهر يختلف كثيرا عن المظاهرات التى كانت تنتهى بعد استفزاز النظام واستخدام القنابل المسيلة للدموع والعصى الكهربائية ،الآن هناك ماهو جديد ويمكن تسميته بالإصرار وهو ما نقرأه فى صفحة 23 رغم أن الشماع نفسه يعترف بأنه صعد إلى إحدى شقق أقاربه خوفا على حياته،ولكنه سيضطر للنزول للشارع مدفوعا هذه المرة بحسه الصحفى وبرغبته فى الوقوف على أسباب تصاعد الدخان من أماكن عديدة ( لا أدرى لماذا لم يذكر الأسباب) ولكنه رصد حالة الانفلات الأمنى الشديدة والتى ربما كانت مقصودة طبعا( ص 24). ولم يغب الحس التسجيلى حين التقط محمد القنبلة ليوثق الحدث فاكتشف أنها أمريكية الصنع وأنها منتهية الصلاحية، وفى عرضه ليوم السبت 29 يناير يحدثنا الكاتب عن القيادات السياسية التى بادرت بالحضور إلى الميدان والغريب العجيب أنه لم يكن بينهم أى قيادة سياسية من هؤلاء الذين يثيرون الصخب هذه الأيام ويدعون أنهم مفجرو الثورة وهو ما لا يصرح به الشماع بل يتركنا لنكتشفه بأنفسنا.ثم يحدثنا عن حفاوة المصريين بمتظاهرى التحرير وتقديمهم ما لذ وطاب من "الكبسة" والصوانى وهو ما يذكرنى بأيام كنا فيها نحقد على رفاقنا المحبوسين فى سجن المنصورة ، إذ كان الأهالى يبالغون فى الحفاوة بهم وكان علينا أن نحمل لهم أشهى وأطيب المأكولات التى كان نساء اتحاد النساء التقدمى يتبرعن بها بينما نحن نتضور جوعا ونقول أن حظنا سىء لأنه لو كنا سجناء كنا سنأكل هذا الطعام الذى نحمله ونحن جوعى و لكننا لم نجرؤ على الاقتراب منه. وفى يوم الأحد 30 يناير، يتحدث محمد عن بداية ظهور عناصر من الإخوان المسلمين لأول مرة فى الميدان بحسب شهادته، ثم يرصد رمزية رؤيته لنقيب يرتدى زى القوات المسلحة ويحمله المتظاهرون ويهتف "الجيش والشعب إيد واحدة" بينما يبكى بعض المتظاهرين تأثرا بهذا المشهد،ثم وصول انباء عن فتح السجون و هروب عناصر من الإخوان، وفى عرضه لأحداث يوم الإثنين31 يناير، يحدثنا الكاتب عن تشكيل حكومة شفيق وعن ظهور بعض الفنانين فى الميدان، ثم دلالة حديث المشير طنطاوى مع الناس فى الشارع ويضع ذلك فى مقابل إطلاق وزارة الداخلية النار على المتظاهرين ويتركنا نستنتج ما يريد أن ينقله لنا من معان دون أن يصرح بها ،وأود أن ألفت نظر القارىء للفقرة الأخيرة فى صفحة 37 التى يرصد فيها الشماع تشكل الملامح الإنسانية للشعب المصرى من خلال وجه سيدة فقيرة قطعت مئات الكيلومترات لتشارك المتظاهرين فى الميدان ومن خلال النسوة اللائى جاوزت أعمارهن سن الستين، و ومن خلال رصده للحظة التكاتف والتعاضد وحتى فى حديثه مع الباعة الذين يتحدثون عن انهم إنما يقدمون خدمة وطنية ببيعهم الطعام للمتظاهرين لبفروا عليهم عبء ترك الميدان للبحث عن طعام وهى فقرة مكتوبة ببساطة وحس روائى وربما تشى بروائى كبير فى المستقبل القريب. و فى يوم الثلاثاء الأول من فبرايريرينا "الشماع" كيف تحولت الثورة إلى كرنفال واحتفال شعبى يستدعى كل أساليب المقاومة ورفض الانحناء ، ويحدثنا عن ماسح الأحذية الذى لا يحدد سعرا ، ثم يهب علب الورنيش لكتابة الشعارات ، نلاحظ طبعا أن هذا هو اليوم الذى سبق موقعة الجمل ولو كنت أكتب فيلما سينمائيا لما فعلت أكثر مما حدث ، لأن موقعة الجمل ستكون فى يوم الأربعاء التالى لنشهد صراعا بين عالم الشعب المصرى بأغانيه وألوانه وكرنفالاته ونكاته وعالم أعدائه النهمين لامتصاص خيراته ولسحقه فى الميدان ، وهو ما جعل الكاتب يعبر عن مخاوفه الإنسانية وهو أمر يحسب له طبعا كونه لا يعانى من الاغتراب ولا يصدره للقارىء. وفى عرضه لما جرى يوم الخميس 3 فبراير يقدم لنا "الشماع" شهادته عن تورط "مرتضى منصو" فى الإعداد للاعتداء على المتظاهرين ولكن أجمل ما فى هذه " اليومية " هو الحوار بين الصحفى والبلطجى والذى يؤكد على قدرة الشماع ككاتب حوار جيد، ثم ننتقل لجمعة الرحيل فى 4 فبراير والتأكيد على مدنية وسلمية الثورة، ثم الحديث مع الضباط المتعاطفين مع الثورة وهنا يذكرنى الشماع بموقف مشابه إذ بينما نحن فى المنصورة نسير قى المظاهرة أمام مدرية الأمن وجدت ضابطا من قوة المدرية_ ربما كان عقيدا_ ينهار من شدة البكاء وهو ينظر إلينا بمنتهى الاحترام فاحتضنته وأخذنا نبكى معا ورحت أقول له " أنا أشعر بك .. فقال نعم.. لقد وضعونا فى مواجهتكم ولكن كثيرين منا لا يوافقون على هذا"، فى اليوم السادس من شهر فبراير يرصد "الشماع" كيف كان القائمون بالتفتيش من شباب الثورة يتعاملون بأدب جم مع القادمين للميدان ، وفى السابع من فبراير يكتشف الشماع خدعة توزيع الشقق التى كانت تهدف إلى فض الميدان ، ثم يأتى اليوم الثامن وعودة وائل غنيم وصعوده فى مشهد رمزى مع أم خالد سعيد واحتفاء الميدان بهم فى مقابل فشل تامر حسنى والسقا فى الدخول وهى لقطة عبقرية لا يقدر على ملاحظتها إلا البارعون فى الكتابة السينمائية ، ويمضى "الشماع" فى عرضه البديع حتى تنحى مبارك فى يوم الجمعة 11قبراير 2011وبعدها يقدم لنا ملاحظته عن عودة الهتافات الدينية إلى الميدان ليتركنا نفسر ذلك بأنفسنا ، فى القصل الثانى يقدم لنا "الشماع" تفاصيل الخريطة السياسية لميدان التحرير بوعى شديد يمكنه من ملاحظة تفاوت درجات الوعى السياسى ولا سيما لدى مجلس أمناء الثورة باعتبارهم قيادات تمتلك الخبرة والقارىء سيكتشف بنفسه أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة لو كان قد قرأ أو رصد الآراء لدى الائتلافات لكنا تجنبنا كثيرا من الأحداث المؤسفة التى حدثت فى الآونة، الأخيرة ، أوربما يكون قد قرأ وتجاهل ما يحدث ، أنا لأ أعلم بالقطع! وفى الفصل الثالث يرصد الشماع مجمل الإشاعات والحرب النفسية الهادفة إلى افشال الثورة والتى قادها النظام باستخدام بلطجية الشوارع وبلطجية الإعلام الرسمى فى ترويع المواطنين ، ثم الفصل الثالث وهو دراسة أنثروبولوجية رائعة فى خفة دم الشعب المصرى ويحتوى الفصل على نكات وقفشات لا يمكن أن تفقد بريقها نظرأ لأنها صنعت فى مصنع إستثنائى هو ميدان التحرير وكل ميادين التحرير فى ربوع المحروسة ، وأخيرا بأتى الفصل الرابع والأخير والذى كان يمكن أن يكون بديعا لو أن دار النشر أولت الصور قدرا من الاهتمام كونها صورا كرنفالية ما كان ينبغى إخراجها بهذا الشكل المتواضع لأن بهجتها وألوانها جزء لا ينفصل من إبداع الشعب المصرى العظيم . وأخيرا فإن كتاب محمد الشماع هو قطعة حية من أيام رائعة فى تاريخ كفاح الشعب المصرى.