يلح على حين أتأمل ما يجري في مصر مؤخرا أن ثمة ثورة .. يقودها أعداؤها ! ولعل المثال الأخير أعني محاكمة أسماء محفوظ أمام محكمة عسكرية يظهر مجددا متى يتشدد المجلس العسكري ومتى يتراخي . ولست هنا في معرض الدفاع أو الهجوم على أسماء محفوظ ، لكني فقط أتأمل ما يقوم به المجلس الحاكم . وأغلب الظن أن " المصلحة المشتركة " التي ربطت الجيش بحركة 25 يناير قد تبخرت بتنحية مبارك ، وقد كان للجيش مصلحة في تنحية مبارك ، حفاظا على النظام وعلى استمراريته بحيث لا تفجره حركة غضب شعبية . مبارك الذي خدم السياسة الأمريكية – والإسرائيلية - والرجعية العربية لثلاثين عاما ، تحول من قوة قادرة على القيام بالخدمات المطلوبة إلي قوة معرقلة ينبغي إزاحتها . نقطة اللقاء بين الجيش و 25 يناير كانت تنحية مبارك ، والقيام ببعض الإصلاحات السياسية التي تتركز في تعديل الدستور وتقليص صلاحيات الرئاسة وتحديد مدتها وإجراء انتخابات يفترض أن تكون نزيهة . ثم افترقت الطرق بالجيش وبحركة 25 يناير ، ومضى كل في طريقه . وقد وجد الجيش نفسه في موضع " قيادة الثورة " التي هو خصمها ، لأن الثورة كانت ومازالت تطمح ليس لإزاحة أشخاص بل لإزاحة سياسات ونظام ، بينما كان الجيش ومازال يطمح للحفاظ على السياسات والنظام . هكذا غدا الجيش قائدا لخصومه ، وزعيما أعدائه ، ورئيسا لحركة يقف ضد أهدافها . ومع احترامي لدور الجيش الذي لم يقمع حركة 25 يناير ، ورفض في معظم الأوقات إطلاق النار على المتظاهرين ، إلا أن ذلك لا ينفي أبدا أن الجيش كان دائما ، مع الشرطة ، عماد كل دولة وعماد كل قهر داخل الدولة . ولكي تكتمل الصورة يمكن أن نقول إن الجيش والشرطة والمخابرات هي أدوات القمع التاريخية . وإذا لم نتحرج من تسمية المشير طنطاوي رئيسا لمصر ( إذا لم نتحرج حسب تعبير هيكل ) ، فإن المشير هو الشخص الذي لازم النظام المصري لأكثر من ثلاثين عاما في أرفع المواقع دون أن نسمع منه كلمة اعتراض واحدة على أي شيء ، ولم يزد دوره عن كونه جزءا من صميم نظام مبارك بل والجزء الذي حمي تلك الدولة ، وحمى سياسة حصار غزة ، وسياسة فتح قناة السويس لضرب العراق ، وبيع الغاز لإسرائيل ، بل وبناء جدار فولاذي بمساعدة مباشرة من الجيش على حدودنا مع رفح ، وهلم جرا . ولا أظن أن المشير ، لم يكن على علم بكل ذكل وهو في قمة السلطة ثلاثين عاما ، ولا أظن أنه لم يكن طرفا في كل ذلك ؟! ومنذ تنحية مبارك – سواء بإرادة 25 يناير أو بإرادة 25 يناير والجيش وأطراف أخرى دولية – تبددت نقطة اللقاء الرئيسية بين الجيش والناس ، وبهتت المصلحة المشتركة ، وصرنا نسمع ونقرأ عن إلقاء القبض على المتظاهرين أمام سفارة الكيان الصهيوني في القاهرة في 22 مايو هذا العام ؟! وتقديم بعضهم لمحاكمات عسكرية ؟ وقانون تجريم الاعتصام والتظاهر؟ والتسويف المستمر في محاكمة مبارك وتفريق مظاهرة العباسية بالقوة الفظة ، وفض اعتصامات ميدان التحرير بالقوة أيضا . ولم يعد خافيا على أحد ذلك التحالف الواضح بين الجيش وحركة الأخوان ، ولا خافية أيضا تلك المشاورات المستمرة بين قادة الجيش والمبعوثين الأمريكيين بشأن ما ينبغي عمله في مصر . كل ذلك لا ينفي ضرورة الحفاظ على موقف الجيش الإيجابي النسبي من 25 يناير ، لكن مع إدراك أن هذا الموقف مرتبط أولا وأخيرا بقدرة وحجم الضغوط الشعبية واستمرارها . لا يريد أحد ، وليس من مصلحة أحد فتح معركة مع الجيش ، لكن لا يمكن أن يظل خصوم الثورة هم قادتها ! فبينما تحتشد الثورة بمشاعر العداء لإسرائيل نجد أن قادة الثورة ، المتحكمين فعليا في السلطة ، وتحديدا سمير الصياد وزير الصناعة والتجارة قد التقى في يونيه بوفد أوروبي من بنك التنمية والتعمير للحصول على قرض بعد موافقة إسرائيل على القرض ! وبينما الثورة تحتشد بأماني الديمقراطية نجد أن قادة الثورة ، المتحكمين فعليا في السلطة ، يقدمون من يريدون للمحاكمات العسكرية ، وبينما نجد أن الثورة محتشدة بطاقة التحرر من التبعية الاقتصادية إذا بالمتحكمين فعليا في السلطة يتقدمون بطلب للحصول على قرض من صندوق النقد الدولي الذي دمر الاقتصاد المصري بتوصياته الملزمة ، وحتى صحيفة مثل الجارديان البريطانية اعتبرت في 6 يونيو أن ذلك القرض " سيكون وبالا على مصر " ، وبينما تقدر الثورة أن كراهيتها لم تكن لشخص مبارك بحد ذاته ولكن لسياساته ، ومن ضمنها علاقته بأمريكا ، فإن السلطة ، أو قادة الثورة ، مازالوا يعتبرون أن العلاقة مع أمريكا هي المرشد والمحرك للسياسة المصرية في المجال الدولي ، وبينما يعيش أربعون بالمئة من الشعب المصري تحت خط الفقر وتحلم الثورة بتغيير ذلك ، فإن يد السلطة لا تمتد بأية خطة للنهوض بالزراعة أو الصناعة . ولهذا صار الكثيرون يراجعون حصاد نصف عام من الثورة ، ويسألون : ما الذي تغير ؟ ماعدا تنحية مبارك ومحاكمة ومحاسبة بعض رموز النظام ؟ . النظام نفسه ، كله ، مازال قائما ، بسياساته الاقتصادية والثقافية والاجتماعية ، وثمة ثورة تغلي بالغضب ، يقودها أعداؤها ، ويوجهها خصوم أهدافها ، ويحيلون الدماء التي أريقت في الشوارع ضد النظام القديم إلي أعمدة لتثبيت دعائم ذلك النظام . ولعلها واحدة من المفارقات التاريخية المؤلمة أن تبذل كل تلك التضحيات من دون الوصول إلي السلطة ، أي إلي قيادة الثورة والتحكم في مصيرها !