جلس على كرسيه معتدا بنفسه، يترنح ذات اليمين وذات الشمال، والطلبة أمام القاعة تكاد قلوبهم تبلغ حناجرهم من شدة الخوف. كيف لا والإمتحان نهائي، ومما يزيد في ارتباكهم هو أن هذا الامتحان شفوي. كان ينظر في ساعته تارة، ويجري مكالمة في هاتفه الخلوي تارة أخرى، ثم يقوم مرة مرة يدخن سيجارة وهو يتأمل الساحة الخضراء الواسعة من النافذة وينفث كومة من الدخان يتابع تفرقها في الهواء بتركيز كبير كمن يشاهد لقطة مثيرة من فلم أو مسرحية. كل هذه الحركات لا تزيد الطلبة في الخارج إلا توثرا، وارتباكا، وهم في حركات ذهاب ومجيء أمام القاعة يحملون أوراقهم ويتمتمون بما فيها. من حين لآخر يسمعون صوته ينساب من باب القاعة: "الموالي تفضل!". يدخل منهم من تغلب على الخوف، بينما يتحلق الآخرون حول الخارج يسألونه عن طبيعة الأسئلة التي وجهها إليه. فلا يزيدهم ذلك إلا توترا وارتباكا لأن الأسئلة التي تلتقط آذانهم مختلفة تماما ولا أحد منها تكرر، وتتناول الحالات النادرة في الإعراب. جاءت متأخرة، لم تقف طويلا أمام القاعة، سمعت: "الموالي تفضل"، فولجت دون استئذان زملائها، دخلت تختال في مشيتها، وصوت حذائها ذي الكعب الطويل يتردد في أركان القاعة"طاق طاق طاق"، أثاره الصوت فرفع رأسه وتابعها بعينين شاخصتين، كانت ترتدي تبانا قصيرا يظهر نصفي فخذيها، وقميصا لا صقا مفتوحا من جهة نحرها يحجم صدرها ويظهر جزءا منه.أخذته نوبة من التفكير: " أهذه طالبة عندي، ربما لم تكن تحضر للمحاضرات، أو أنها كانت تحضر لكن لم تكن ترتدي لباسا مثيرا بهذا الشكل، أي جمال هذا؟ وأي صباح هذا؟، ثم قال لها مبتسما : تفضلي آنسة! بادلته ابتسامة ثم جلست شاكرة. - هات بطاقتك! سلمته بطاقتها فتناولها ، ثم حدق في الصورة وقال: أهذه أنت؟ اكتفت بابتسامة وهي تحرك رأسها بالإيجاب، ثم تابع قائلا: - متى أخذت هذه الصورة؟ يبدو أنك ازددت جمالا بعدها، أليس كذلك؟ تصنعت ابتسامة، وأحست بحلقها يجف فابتلعت ريقها، ثم قالت له: - أستاذ من فضلك السؤال، فأنا مستعجلة بعض الشيء. أحس بأن كل ما كان قد بدأ في بنائه تهدم لحظة واحدة، لكنه آثر أن يواصل الطريق بنوع من الخبث والمكر، فقال لها: - طيب سأطرح عليك سؤالا، لكن قبل أن تجيبي عليك أن تتأني وتفكري جيدا قبل النطق بأية كلمة. - حركت رأسها بالقبول ثم أطرقت تستمع له. فقال لها: هل توافقين على الزواج مني؟ نظرت إليه في ذهول تام، وعلامات الانفعال بادية على وجهها، ثم قالت له: احترم نفسك يا أستاذ فأنا مخطوبة، وهذا السلوك لا يليق ب... فقاطعها رافعا صوته: أعربي هذه الجملة أو قومي من أمامي يا آنسة، فلست أمازحك، والمزاح ليس من عادتي، أنا هنا أستاذ فلتحترمي نفسك من فضلك. نزلت كلامته عليها كالصاعقة، وذهلت كثيرا، فقامت مستندة إلى المكتب، وتناولت بطاقتها، وخرجت تمسح دموعها، بينما شيعها هو متلذذا بنشوة الانتصار، ثم وضع أمام اسمها علامة صفر، ثم أضاف ملاحظة كتب فيها "امتنعت عن الجواب بعد أن أساءت فهم السؤال".