عزيزتي الثورة .. تحية وإعزازا وبعد .. هذا هو خطابي الأول إليك بعد نحو أربعة أشهر من لقائنا الأول في 25 يناير ، اللقاء الذي طال انتظاره لنحو أربعين عاما . من قبل كتبت عنك ، الآن أكتب إليك مباشرة وقد ظهرت وصرت حقيقة في الميادين والنفوس والعقول ، حقيقة غالية افتداها مئات الشهداء وآلاف الجرحي لتتفتح زهرة الاحتجاج بكل ألوانها على كف مصر. ولم أكن وحدى في انتظار قدومك بوجهك الجميل ، كان هناك الكثير من الشرفاء والكثير من الأقلام والكثير من الأحلام والكثير من القصائد والكثير من الزنازين والكثير من الممنوعات . لم أكن وحدي ، كنت قطرة في بحر يشهق بك . من السخف الآن أن أدلل على حبي لك ، لكي أحظى بنظرة من عينيك وباهتمامك في غمرة مشاغلك ولقاءاتك ومؤتمراتك الكثيرة وأحزابك التي ظهرت في كل مكان ، والكتب التي سطرت عنك خلال ساعات قلائل ، والأغنيات ، والشعارات . أنت الآن تتألقين في حفل ضخم تحت الأضواء المتلألأة وحولك الآلاف يحيطونك بالإعجاب والتقديس ، ولا أنوى هنا أن أنتزعك من هذا الاحتفال الكبير لأسر في إذنك بأنني كنت أنتظرك طويلا ، وتستطيعين أن تراجعي كل ما كتبته عن ذلك الانتظار الممض ، وعن شوقي إليك ، ولن تجدي في دفاتري حرفا غيرك ، ولا كلمة نافقت قوة أو سلطانا أوجاها ، وكان ذلك يتطلب عزيمة ومحبة كثيرة ، لكي يبقى الإنسان في الظل محتضنا فكرتك . على أية حال ، سواء أوصلك هذا الخطاب أم لا ، فإنني أود فقط أن أقول لك أنني لم أتعرف إلي صورتك حين جئت، هذا طبيعي ، فالإنسان يحلم بشيء ، لكن الواقع غالبا ما يلد شيئا آخر ، مختلفا . تسألين كيف حلمت بك ؟ كيف تخيلتك ؟ . الحق أني تخيلتك قوية ، واضحة ، عارمة ، تكتسحين كل ما أمامك ، وتقيمين الدنيا فلا تقعد ، لكنك رغم الدماء التي أريقت لأجل وجهك ، جئت ، مرتبكة ، وحائرة ، تقطعين خطوة للأمام ، ثم تتوقفين وتتلفتين حولك وتسألين : من أين الطريق ؟ . ترتجفين بالغضب ويفور الدم في صدرك ، ثم تهدأين ، تندفعين ، ثم تستولي الشكوك على قلبك ، فتمسحي الميادين بنظرة تبحثين بها الحقيقة . ورغم كل ذلك فإنني مازلت على هواك ، لأنك حطمت الخوف بظهورك ، وبددت الظلمة ، وفتحت الطريق حتى لو كنت فتحته فقط للأسئلة المحيرة . ربما أكتب لك ثانية ، وثالثة ، إذا أردت ، إذا قدرت أنت أنك بحاجة لخطاباتي ، وإذا كانت ستلقى اهتمامك تلك الأفكار والتساؤلات التي تؤرقني كل ليلة ولاأجد لها إجابة . ما أريد أن أقوله لك الآن ، إنني كثيرا ما أسمع من حولي الكلام عن ثورة مضادة لك ، وعن سرقتك ، وعن إجهاضك ، وعن إنقاذك ، ولكني أقول لك إن المطلوب هو إنقاذك من نفسك ، وليس من أحد آخر . إنقاذك من أن تصدقي أن السخط على الأشخاص الفاسدين هو سخط على السياسات ، بالطبع أنا معك تماما حين تنادين بمحاكمة مبارك وكل رموز حكمه، بالطبع ، يجب أن يلقوا عقابا رادعا ، لأن دماء أبسط مواطن تساوي دماء أعلى مواطن . أنا معك في ذلك ، وضد أي عفو ، لأن نظام مبارك لم يعفو عن الشعب بأكمله ثلاثين عاما . لكني كنت أود أن تعاقبي السياسات والمنهج أيضا ، أي أن تقومي بمحاكمة السياسة الاقتصادية التي سار عليها مبارك وإصدار حكم بالإعدام في حقها ، السياسة التي ألزمتنا بالتبعية لصندوق النقد والبنك الدوليين ، حتى أن ضريبة العقارات ( تخيلي ؟ حتى تلك التفاصيل الصغيرة ) كانت بإملاء من صندوق النقد ! . كنت أتمنى أن يتجه غضبك وعنفك إلي الأرض التي أخرجت النباتات السامة ، وليس فقط نحو استئصال هذه النبتة أو تلك ، لأنه – صدقيني – ما فائدة أن تستأصلي نبتة هنا أو هناك ، والحقل المشبع بغياب العدالة الاجتماعية ينبت كل يوم المزيد من الأزهار السامة ؟ . كنت أتمنى – وأنا أكلمك بصراحة وصدق – أن لا يتبدد عنفوانك في محاكمة المجرمين فحسب ، بل أيضا في محاكمة الإجرام ، أعني أن تجلسي وتضعي للبلد خطة للنهوض بالصناعة القومية ، والزراعة ، وخطة لتوزيع عادل للدخل القومي . في عهد الملك فاروق وصف أحد الاقتصاديين مصر بأنها كالبقرة التي ترعى في مصر، لكن ضروعها تحلب في الخارج . وهذا ما فعله مبارك مجددا بمصر . وما أتمناه هو أن تختلف صورة البقرة التي ترعى في مصر بحيث تحلب ضروعها في مصر لأبنائها . هذا هو ما أقصده بمحاكمة السياسات وإعدامها ، وليس فقط الاكتفاء بمحاكمة الأشخاص . وإلا فما قيمة أن نحاكم مبارك ثم نمضي على طريقه ؟ . مازال تصويب الطريق أهم في نظري من أي شيء . واسمحي لي إن كان خطابي بين يديك ، وإن كان قد استحوذ على شيء من اهتمامك أن أحكي لك حادثة صغيرة ذات مغزى ، فبعد انقضاء عشرة أيام من ظهورك في 25 يناير ، سادت حالة من الذهول ، والمراقبة ، وتفجر الغضب ، والمتابعة ، وكنت مأخوذا بوجهك الجميل ، إلي أن كان يوم استوقفني فيه حارس العمارة التي أسكنها ، وقال لي : أنا يابك سعيد جدا بما يحدث . قلت له : بالطبع ، كان من الضروري للوضع القائم أن يتبدل . قال : شيء جميل فعلا ، سيرحل الرئيس ويأتي الثوار . قلت : نأمل ذلك . وانكسر بصر البواب العجوز لحظة ثم رفع عينيه ثانية يتأملني وقال: لكن نحن .. ماذا سيفعلون بنا ؟ . سألته : ماذا تقصد ؟ . قال بمرارة وقد جمع أصابع يده الخمسة يشير بها إلي فمه : يعني هل سنأكل ؟ أم أنها حرية فقط ؟ . وصدمني الشعور المفاجيء بقوة الفقر والجوع ، وفكرت في المهام الصعبة التي يتعين عليك أن تقومي بها ، وأنت بعد مازلت شابة تتلفتين حولك بقلق وتسألين : من أين الطريق ؟ الآن أريد أن أقول لك ، بل أريد أن أرجوك ، أن تصمي إذنيك عن أغنيات المديح . أنت جميلة ، وعظيمة ، وقوية ، ولست بحاجة للمنشدين الذين احترفوا الإنشاد لكل العصور ، وعيناك الواسعتان باتساع مصر ليستا بحاجة لغزل رخيص . إنظري من حولك في هذا الحفل الصاخب كم من الكتب الفورية التي صدرت بعد ساعات من ظهورك تتحدث عنك ، وانظري كم من الأغنيات الرخيصة لنفس المنشدين الذين تغنوا بمبارك صارت تذاع ، وانظري من حولك كيف يتم الآن تملقك بنفس الطريقة التي تملقوا بها مبارك ، أرجوك أن تصمي أذنيك عن كل تلك المدائح ، أن تثقي أنك جميلة ، لا تثقي في الملصقات التي تباع في كل مكان وقد كتب عليها " أنا فخور لأني مصري " ، الذين يفتخرون بك ، وبأوطانهم ، يفتخرون بها طوال الوقت ، ساعات الهزيمة وساعة النصر ، أما الإدعاء بأني " فخور بوطني بعد ظهورك في 25 يناير " ، فلا أهضمه ، ولا أفهمه ، لأنه يمحو افتخاري الطويل بوطني ويمحو حلمي الطويل بك ، ويجعله يبدأ فقط بعد اليوم الذي ظهرت فيه . وحين تحيطك تلك الإدعاءات أرجوك تذكري قصيدة شاعرنا العظيم صلاح جاهين " بأحبها وهي مالكة الأرض .. شرق وغرب .. وبأحبها وهي مرمية جريحة حرب .." . أما الذين يفتخرون بمصريتهم فقط ساعة النصر فإنهم يحولون الوطنية إلي عمل ناجح مربح لايجوز قبله الافتخار بالوطن . أرجوك ألا تنصتي للمدائح ، لأولئك الذين يطلبون الآن في الإذاعة والإعلام والصحف والتلفزيونات مواد عن عظمتك ، وروعتك ، بنفس الروح التي كانوا يطلبون بها مواد عن فخامة الرئيس حسني مبارك ، وإنجازات سوزان مبارك ، ومشروع القراءة للجميع . الروح التي تتشمم أين تقع السلطة ؟ من يحكم ؟ كيف ننافقه ونتقرب إليه ؟ . إنهم يعتبرونك الآن سيدة كل شيء ، الحاكمة ، لهذا ستجدين نفس المطربين الذين تغنوا بمبارك هم الذين يتغنون الآن بك ، وباسمك ، وستقرأين فتجدين أن العدد الأكبر من الصحفيين الذين تخصصوا طويلا وبدأب في نفاق مبارك ، هم الذين يكتبون لك الآن عن الظلم والاستبداد الذي تملقوه ، وكما جرى نفاق السلطة فيما مضى ، يتم الآن نفاقك أنت والتقرب منك ، ويتقدم البعض باقتراحات ثورية لكي يستمر المجلس العسكري في حكم البلاد . كنت أتمنى لو تستطيعين أن تصرخي في وجوههم : توقفوا . كفوا . لا أريد مديحا ، إني أبحث الآن عمن ينتقد المجلس العسكري ، وينتقدني ، ويدلني على مواطن الضعف في حركتي ، فكفوا عن عزف الأناشيد الرخيصة ، وقولوا الحقيقة ، ليس تلك الحقيقة التي تخص الماضي ، بل الحقيقة التي تخص الحاضر ، أين أخطائي الآن ؟ أين خطواتي الصحيحة ؟ وكيف أمضي للأمام ؟ . إن الذين نافقوا كل الأنظمة طويلا ، سيواصلون حرفتهم ، والذين صمدوا في وجه الكذب سيواصلون قول الحقيقة ، وأنت بحاجة للحقيقة ، لكي تكبري ، وتصبحين بحجم أحلام الوطن كله ، الوطن الذي يتالف في معظمه من الفلاحين الفقراء ، والعمال ، والموظفين ، والطلاب ، والعلماء ، والكتاب . هذا هو الوطن الذي يليق بجمال عينيك وبنظرتك الغاضبة ، الثائرة ، القلقة . فإذا وقع خطابي بين يديك ، وجلست وحدك تقرأينه باهتمام بعيدا عن ضجيج الحفل وأضوائه ، وإذا نفذت كلماتي بالمصادفة إلي قلبك ، فقولي لي ، فمازال لدي الكثير من الأسئلة الحيرى ، قولي لي لأكتب إليك مرة أخرى ، أو أظل واقفا بصمت متطلعا إليك بحب وأمل في ذلك الحفل الكبير الذي يشغى بالحركة والشعارات والمؤتمرات والخطابات . لك كل محبتي ، وشوقي ، أيتها العزيزة الغالية .