ظلَّ منهمكًا في تصفّح المعاجم العبرية جديدها وقديمها، يبحث عن معنى لاسمها المبجّل، حتى عثر عليه فوجده "الأرض الطيبة". اسمها "عِيدِيت"- بعين مخففة تكاد تتشارك مع الهمزة في اللفظ- فانفلتت حينها ومضة من ذاكرته فمرّت من أمام ناظريه فذكّرته بها وهي تمشي على استحياء وتتجه نحو سيارتها مصوّبة إليه نظراتها ببشاشة عذبة ومحيّا ناضرٍ.. إن هي إلا أرض قاحلة.. سألها يومها عن سبب وقوفها في هذا الجزء من أرض محطة الوقود والذي يزوِّد السائقون إطاراتِ عجلات سياراتهم بالهواء اللازم.. ليته لم يصدّقها في ذلك.. ليته لم يحمل في ذلك الوقت من النقود ولو فلسًا واحدا في جيبه. إن أكثر شيء يكرهه أن يخدعه إنسان حتى لو بفلس واحد. هو كريم لأبعد الحدود.. يغدق ولكن من غير خداع.. فالخداع والكرم لا يمكن أن يلتقيا. هكذا علمته الحياة. تقدّمت إليه في تؤدة وانبرت تحدّثه بلسان حذقٍ وطلقٍ عن نفاذ الوقود من خزان سيارتها وأنها لا تملك مالاً لتملأه.. وهي في حاجة ملحّة لتسافر الليلة إلى الجليل لترى أطفالها الذين تركتهم في رعاية والديها العجوزين. وإن تكرّم "حضرته" عليها بأن يقرضها بما يستطيع جيبه تحمّله ستكون ممنونة له وستردّ له المبلغ في العاشر من الشهر القادم، موعد حصولها على الراتب الشهري. تلاعبت بشعرها المنثور وهزت كتفيها وافترت شفتاها عن ضحكة خفيفة مغنّجة فسألها: - وما الذي يضمن لي قيامك بواجب ردّ الجميل؟ أجابته بكل ثقةٍ: - هذا هو رقم هاتفي بإمكانك أن تتصل بي الآن لتتأكد من صدق كلامي ثم إن خدعتك فكيف يمكن لي أن أواجهك أذا صادفتني في الشارع؟ وهل تظن أن شكلي يوحي أنني نصابة محتالة يا سيدي؟ لديّ الكثير من الأصدقاء العرب منهم أحمد وخالد ويوسف وحسّان. من حيرته خرج مزهوًّا.. ومن محفظته أخرج مائة وخمسين دولارًا. وخرج معها من صميم قلبه إحساس خاص لا يشعر به إلا المحسنون الذين ينفقون في السرّ والعلانية.. تلاه إحساس بطلوع بدر حظٍ غاب عنه منذ سنوات ونشوة العثور على صيد صالحٍ قد يحسده عليه الناس جميعاً. أمسك بيدها المصافحة فوجدها ناعمة الملمس فشعر بالفرح يغمر قلبه. لكن الفرح تلاشى في صباح اليوم التالي حين حاول الاتصال بها من خلال جوّاله إذ أدرك أن الرقم الذي ناولته إياه ما هو إلا رقم شريحة أحاديّة الاستخدام يبيعها الباعة المتجولون. فذابت بشريحتها كما يذوب الملح في الماء. ولا يزال يحتفظ بالرقم للذكرى.