. الوسائط وتدوين الذاكرة عرفت الوسائط منذ ما يسمى ب «فجر التاريخ» تطورا دؤوبا ومتواصلا كان أبرز محطاته ثورتين كبيرتين لا نظير لهما على امتداد مسيرة الجنس البشري منذ أن أصبح «إنسانا عاقلا عاقلا» Homo-sapiens-sapiens، وهما اختراع المطبعة في القرن 16 م، في 3 فبراير 1468م، على يد الألماني جتنبرغ، ثم الثورة الرقمية الجارية تحت أعيننا اليوم، والتي انطلق زخمها الحديث جدا في سبعينيات القرن الماضي مع بداية انتشار استعمال الحواسيب الشخصية وتواصل هذا الزخم مع إطلاق شبكة الأنترنت في تسعينيات القرن نفسه. إذا كانت المطبعة قد غيرت وجه العالم بما أفضى إلى حركة العولمة الجارية اليوم، حيث وسعت قواعد القراء والمتعلمين والكتاب وسرَّعت إيقاع إنتاج المعارف بما بلغ درجة الفوران[1]، وأمدَّت الفكر النقدي وحركة الأنوار، لكن أيضا الحركة الإمبريالية، بأسباب الوجود، وأدخلت العالم في تواصل غير مسبوق عبر تقليص حاجزي الزمان والمكان، فإن الحاسوب، باعتباره رأس حربة الثورة الرقمية، بإمداده لتواريخ التسجيل الثلاثة التي ظلت على امتداد التاريخ تتلمس طرق وأدوات التدوين الأفضل لذاكرة الأفراد والمجتمعات، وهي الخط والصورة والصوت، أقول: بتقديم الحاسوب لهذه التواريخ أداة عملية للاتحاد والاندماج فإنه يواصل مهمة المطبعة بسرعة مُذهلة، ما يجعل المقارنة بين الجهازين غير مُجدية، حيث يؤدي الكمبيوتر وظائف خمسا في آن هي: الكتابة والقراءة/الاستماع والتخزين والبث ثم الاستقبال في فضاء لا يجرِّدُ فحسب سائر أنواع الملفات والأشياء من ماديتها ليحولها إلى موضوعات مجرَّدة، بل ويلغي عمليا بُعدا الزمان والمكان. تحيل الثقافة الشفوية والشعبية عموما إلى كل ما هو غير عالم وغير نخبوي، وتتألف من الحكايات والأحاجي والألغاز والأغنية الشعبية بكافة فروعها (العيطة، المجموعات الشعبية، الأمازيغية التقليدية، الخ.) والاحتفالات والطقوس الاجتماعية والدينية والسحرية والمهنية وغيرها والشعر الشفوي والزجل. يمكن التمييز فيها بين قطاعين: الأول لم يستغل الوسائط الحديثة بعد، رقمية كانت أم غير رقمية، ويشمل: الحكايات (المرنيسي، كيد الرجال وكيد النساء)، الزَّجَل (باستثناء تجربتين فريدتين - فيما نعلم - هو نشر فاطمة مستعد لأحد دواوينها (على قرص مُدمَج)، ونشر أحمد المسيح لعدد كبير من قصائده الزجلية بصيغتين سمعية ومرئية انطلاقا من موقعه على شبكة الأنترنت)[2]، والأحاجي والألغاز والحلقة والفضاءات العامة (الأحياء، الأسواق، المباني، الخ.) الثاني استغل تلك الوسائط بشكل كبير، ويتألف من المسرحيات والأغنية الشعبية بسائر أنواعها بالخصوص
2. الثقافة الشفوية والتراث الشعبي والوسائط الحديثة: 2. 1. مرحلة ما قبل الرقمية (من الخمسينيات إلى منتصف التسعينيات) بدأ تدوين المسرح / أو سكيتشات بالأحرى والأغنية الشعبية بواسطة الأشرطة المغنطيسية والأسطوانات بظهور الفوغراف، ثم بالكاميرا بعد ظهور القنوات التلفزية والأشرطة الصوتية (الكاسيت) بعد ظهور آلات تسجيل الأصوات وقراءتها، ثم أشرطة الفيديو. إلى حدود هذه المرحلة يمكن تسجيل ملاحظتين: - لم تشمل عملية التسجيل كافة مكونات الثقافة الشفوية والتراث الشعبي بالمغرب؛ - إلى حدود ظهور آلات تسجيل الصوت، والفيديو بعدها، ظلت عملية التسجيل شبه مطابقة للطباعة الورقية، في غياب وجود رأسمال مال يتيح تأسيس شركات للتسجيل والنشر[3]. فمن المتعذر الحصول على نسخة مما تذيعه الإذاعة، وبالمثل مما تبثه التلفزة. في حين بظهور جهاز تسجيل الصوت صار بإمكان أي كان أن يسجل إن شاء: أغاني طقوس، حفلات، الخ. في غياب الصورة (طبعا) على أنَّ إمكانية الاستنساخ تظل في هذه المرحلة محدودة لصعوبتها النسبية، حيث لاستنساخ شريط ما، كان يجب إما التوفر على جهازين موصولين ببعضهما عبر شريط واصل أو التوفر على جهاز له قارئين. وبظهور الفيديو تمَّ تحقيق نقلة نوعية على أن الإكراهات السابقة ظلت نفسها، مع فارق أن قارئ أشرطة الفيديو يقرأ أشرطة ويستنسخها دون أن يتجاوز ذلك أبدا إلى التسجيل المباشر. - إن حجم ما تم تدوينه في تلك الحقبة غير معروف، فإنه يمكن ترجيح أن الكمَّ المحقق لا يتناسب والحجم الحقيقي لإبداعات الثقافتين الشفوية والشعبية المغربيتين. ومع ذلك، فالرقمية تتيح اليوم إنقاذ كل ما تمَّ تدوينه آنذاك، وهو عمل تمت مباشرته كما سنرى في نقطة لاحقة من هذه الورقة. - نصوص تلك المرحلة تطابق المطبوعات المدونة في الحوامل المادية من حيث أنه لا يمكن بتاتا العبث بالنص عبر نقل مقاطع من النص السمعي أو البصري محلها أو دمج وثيقتين في ملف جديد على غرار ما تتيحه اليوم برامج الفيديو والريمكس. 2. 2. المرحلة الرقمية (من منتصف التسعينيات إلى اليوم): مع الحقبة الرقمية، وتحديدا مع انتشار أجهزة الحواسيب وتجهيزها بالوسائط المتعددة وظهور شبكة الأنترنت في تسعينيات القرن الماضي، شهدت عملية النشر ازدهارا غير مسبوق اعتبارا للكلفة الزهيدة للنشر وتخطي حلقاته التقليدية، تماما على غرار ما يحصل في عالم الكتب، حيث صار بالإمكان: أ) نشر الأعمال الذاتية وحتى أعمال الآخرين: يتم هذا العمل في المغرب على واجهتين: الأولى: الأقراص المدمَجة التي تخزَّنُ فيها عشرات الأسطوانات والأشرطة الصوتية بصيغة رقمية. وتعج الآن أسواق المنتوجات الرقمية المقرصنة بهذا النوع من الأقراص (الأغنية الشعبية بالخصوص وبسائر أنواعها) الثانية: النشر الشبكي عبر الأنترنت: أشهر عمل مغربي في هذا الصدد موقع سطات بلادي www.statbladi.org و www.statbladi.ma الذي باشر عملا ضخما في توثيق الأغنية الشعبية المغربية بجميع فنونها إضافة إلى وضع ريبرتوار كامل عن المسرحيات المغربية القديمة، وأشرطة فيديو للأغنية الشعبية. عمل هذا الشخص يناظره على صعيد الكتاب العمل الجبار الذي قام به صاحب موقع كلاسيكيات العلوم الاجتماعية[4]. ب) إفراغ أشرطة تصويرية من كلامها الأصلي وتعويضه بكلام آخر: ينطبق هذا على الأغاني كما على الحوارات التي تتحول إلى سكيتشات[5]؛ ج) صناعة أشرطة من فن الهيب هوب: عبر أخذ مقاطع موسيقية من ألبومات غربية وتخليلها بكلام مغربي وأشهر عمل في هذا الصدد عمل فرقة الرَّاوْ الدَّاوْ. وبظهور حركة 20 فبراير 2011 بدأ إنتاج هذا النوع من الأشرطة يعرف تزايدا. علما بأن للشباب التونسي والمصري والليبي تراثا لا بأس به من هذا الفن يسبق تاريخ ثورات هذه البلدان بسنوات. د) إنتاج اسكيتشات شعبية. ويعج موقع اليوتيوب بأشرطة من هذا النوع يلتقي معظم ما تصفحناه في استخدام العامية المغربية أو اللهجة العربية بلكنة بدوية، وتتطرق لمواضيع اجتماعية بأسلوب هزلي يتوخى الإضحاك[6] من خلال أشرطة تصادف رواجا واسعا عبر تصفحها مباشرة من اليوتيوب كما عبر تشاركها في المنتديات ومواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك، تويتر، الخ.). وأهم ما يُستنتَجُ من هذه المرحلة: - حصول ما يسميه بعض نقاد الأدب الرقمي، في سياق حديثه عن المخاطر المحدقة بالأدب جرَّاء الرقمية، ب«حصول نزيف في الخطاب»، حيث تعج الأنترنت، فيما يخص موضوعنا، بسائر أنواع الأغاني الشعبية المغربية والطقوس والحفلات الدينية وغيرها، يقوم بها أشخاص مجهولون بأجهزة رقمية (هاتف محمول، آلة تصوير رقمية، كاميرا، حاسوب متصل بالأنترنت) باتت تقريبا في متناول جميع الناس. - استمرار «إقصاء» - إن جاز التعبير - لقطاع كامل من الثقافة الشفوية والتراث الشعبي، مثل الزجل والشعر الشفوي والأحاجي والألغاز والحلقة، الخ، ما يدعو للتفكير في سبب هذا العزف عن التدوين التلقائي الذي بات في يد سائر الناس، من جهة، ويضع الباحثين الاجتماعيين والمهتمين بالتراث والوزارة الوصية أمام مسؤولية كبرى، من ناحية أخرى. 3. اقتراحات: أمدت الوسائط الجديدة، وفي مقدمتها السمعية البصرية، العلوم الجديدة بأدوات خصبة لتدوين الظواهر الثقافية والاجتماعية بما أتاح قيام تخصص فرعي في علم الاجتماع تحت اسم علم الاجتماع البصري وآخر في الأنثروبولوجيا، فرعي بدوره، تحت اسم الأنثروبولوجيا البصرية. كلاهما يأخذ على عاتقه توثيق الظواهر الاجتماعية والعمرانية بالصورة والصوت[7]...، ما يفتح المجال للجامعة المغربية ومؤسسات البحث العلمي ومعهد التراث لإنجاز الكثير على هذا الصعيد، الخ. وحيث أمدَّت التكنولوجيا الرقمية جميع الناس، وعلى قدم المساواة، بأدوات التسجيل/الكتابة والنشر، يمكن ترشيد هذا الاستخدام واستثماره وتشجيعه لإنشاء أرشيف مغربي للثقافة والتراث الشعبي المغربيين عبر: - تنظيم مسابقات وجوائز جهوية ووطنية لأفضل تسجيلات مظاهر الثقافة الشفوية والتراث الشعبي (حكايات، أحاجي، ألغاز، حلقات، الطقوس والاحتفالات الاجتماعية والدينية والمهنية الفلاحية والسحرية وغيرها، الخ.)؛ - احتضان مؤسسات عمومية للمبادرات الفردية الهامة التي يقوم بها مواطنون عاديون (موقع سطات بلادي، مثلا) بغاية ضم مثل هذه الأعمال إلى أرشيف الثقافة الشفوية والتراث الشعبي المغربيين بحيث تشكل رفا من رفوف خزانة رقمية أكبر تُطلق عبر موقع وزارة الثقافة المغربية، وذلك بغاية مدّ الباحثين في كافة بقاع العالم بما يسهل عليهم البحث والمقارنة، من جهة، ثم تسهيل تصفح هذه الأعمال والاستمتاع بها من لدن مغاربة الداخل والخارج على السواء. - إقامة معارض افتراضية للأمكنة الدينية والطقوسية على غرار ما قامت به بلدان أخرى مثل الهند (تاج محل) وإيران.
________________________________________ [1] Jean Clément, «La littérature au risque du numérique» : http://hypermedia.univ-paris8.fr/jean/articles/docnum.pdf [2] http://www.zajal-lemsyeh.com [3] من شركات تلك المرحلة: بوسيفون، أطلسيفون، مكاويفون، الخ. [4] http://classiques.uqac.ca/ [5] من أمثلة ذلك، - شريط «شيخات المغرب في الحمام» (وتم حذفه)، على أن شريطا آخر بالمونتاج نفسه موجود تحت عنوان «شيخات الجزائر في الحمام: http://www.youtube.com/watch?v=nClO5louBYg - شريط ترجمة حوار مع الرئيس جورج بوش إلى الدارجة المغربية (البدوية): http://www.youtube.com/watch?v=74D7uWTAjs4 - شريط يركب بين مقطع من الفيلم الكرتوني «شريك» والأغنية الشعبية «فوتيني فوتيني» للفنان عادل الميلودي: http://www.youtube.com/watch?v=iRka9h-XpmA [6] من أشهر الأشرطة: - حكاية بهيجة: http://www.youtube.com/watch?v=qJLkqftrOOk - عبير: http://www.youtube.com/watch?v=TjHa2ZdokFY - شكيب عصفور: http://www.youtube.com/watch?v=Gy1eJdnNUFw - ميمي ضربات الطَرَ: http://www.youtube.com/watch?v=Gy1eJdnNUFw [7] انظر على سبيل المثال: - Fabio Laroca, »Introduction à la sociologie visuelle», in Sociétés, 1, 1997, pp. 33-40 . Anthropologie visuelle en Afrique urbaine : Guide mé- thodologique http://nccr-ns.epfl.ch/public_pdf/AV_GuideMethodoLight.pdf