أدرك العجوز منذ زمن أن قواه بدأت تَخِر، وأن الزمن فعل فيه فِعلَه. لكن شيئا ما في باطن العجوز كان يحدثه بأن ريعان الشباب ما زال ولا حال. روحٌ تتمثل للعجوز بشرا سويا تقول: أنت قادر على مواصلة الدرب، فإياك والرضوخ! لكن العجوز ما عاد الآن قادرا على تحمُّل صدى كلامه، وهو يرى أضغاث أحلامه تتهاوى أمام عينيه حلما حلما. أتُراه الآن سيقاوم؟ أتُراه سيُسْلِم الزمام أخيرا؟ شعبُه يهتف الآن عاليا: ارحل! ارحل! نسائم الحرية تنبعث من الميدان فيستبشر الناس بغدٍ ليس فيه قرح. الصرخات تدوي في جنبات القصر، والهتاف يصم الآذان. فإن يَكذِبِ السمعُ أفيُنْكَرُ رأيُ العين؟ فها هو ذا من شُرفته يرى الحشود تحتل المكان، واصلةً الليل بالنهار، لا تكل ولا تمل. وميدان التحرير نفسُه يتهادى على نغمات الصرخات: ارحل! ارحل! أيتها القاهرة ما أقساك! لحنٌ واحد يسود المكان. وسمفونية القاهرة تتغنَّجُ على هاذِ الأمواج البشرية. ها هي موجةٌ الآن قادمة، لطمت القصر فارتجَّ، وارتج العجوز. غمغم العجوز: موجةُ خيرٍ ورُشد. شدَّ الزمام إليه بقوة، ثم بدَتِ الموجة تتراجع وهدأ الميدان. لا ثقة للعجوز في هدوئه، فرُبَّ هدوء سبق العاصفة. لم يخب تنبؤ العجوز، فها هي الموجة تعود من جديد. وفي سيرها تنضم إليها موجات أُخَر. تتلاحم الموجات، ويقف العجوز مشدوها أمام الطوفان. يمكن أن تكون آخر رَجَّة. يمسك الزمامَ بكلتا يديه، يجذبه إليه في شدة، ثم ينكفئ انكفاءة المُستعد. التطم الطوفان بالقصر. تصدَّعت الجدران، وارتج الإيوان، وتخلخلت الأعمدة. قال العجوز: غيثٌ وبركة. أطل العجوز من شرفته ثانية فرأى الأمواج في جَزْر. استلقى على عرشه عسى يَنعَمُ باستراحة المحارب. ليتها تدوم! وبينما العجوز على حاله تلك، استعاد في طرفة عين أيّامَه المنصرمة. سيلٌ من الأسئلة يتدفق. ما الذي حدث؟ أكنتُ مخطئا حقا؟ كيف؟ لا يمكن. أخطأتُ كل هذا الزمن؟ لا يُعقل. لماذا لم يُنَبِّهْني أحد؟ كانوا مخطئين مثلي؟ لا أفهم. لكن أين كانت هذه الحشود؟ لماذا الآن؟ ثم ذَكَر ما أقرأه إميل زولا في يفاعه: " إن أخرستَ الحقيقة ودفنتها تحت الأرض فسوف تنمو وتُنْبِت". الحقيقة؟ أأصابني الخَرَف؟ كنتُ أعرفه إذن. لكن بيل كوسبي يقول: "إذا أصابك الخرف فلن تعرف ذلك". لا، لا. حتما هم المُخطئون. هؤلاء السوقة والرعاع لا فَهْمَ لهم ولا عقل. إنهم لا يتبَيَّنُون صالح الأمة، ولا ما يضر أو ينفع، ولا يَمِيزون حقا من باطل. لا ريب أن الأمر كذلك. فجأة قطع هدير الأمواج على العجوز خواطرَه. أطلَّ من الشرفة ثم استمسك بعرشه. هدير الموج يصُكُّ السمع. جعل العجوز أصابعه في أذنيه، فسقط الزمام. التطمت الأمواج بالقصر فاندكَّ فكان هباء منبثا. استفاق العجوز على وقع الأقدام. نادى الجموعَ وهي ترفُسُه جيئةً وذهابا: آمنتُ أنه ما غالب أحدٌ الشعبَ إلا غلبَه.